حمّاد بن حامد السالمي
* بعد ثماني عشرة دورة نصية؛ في ثمانية عشر عامًا فارطة من تاريخ (ملتقى قراءة النَّصّ الأدبي)؛ خصّص (نادي جُدة الأدبي الثقافي)؛ ملتقاه التاسع عشر الذي أقيم في رحاب النادي قبيل ثلاثة أسابيع، للكلام على (المنتديات الأدبية والثقافية الخاصة)، وهي المنتديات التي ظهرت وقامت في العديد من مدن بلادنا المنصورة بإذن الله؛ ظهرت وقامت وظلت تؤتي ثمارها اليانعة؛ بجهود خاصة من أصحابها، الذين تطوعوا لخدمة أدب وثقافة وتاريخ المجتمع، دون إيعاز أو تكليف من أحد، و(كانت) منتدياتهم وصالوناتهم ومجالسهم الخاصة؛ تنتشر في كافة المدن والمحافظات، حتى أن محافظة واحدة هي (الأحساء) على سبيل المثال؛ كان فيها على ما يقال حوالي 30 منتدىً خاصًّا، وكانت هذه المنتديات الأسبوعية أو الشهرية التي عادة ما تحمل أسماء أصحابها؛ أو أسماء أيام الأسبوع التي تنظّم فيها، أو حتى أسماء الأمكنة التي تقوم فيها.. كانت تنتشر في المدن كبيرة وصغيرة، في الأحساء، والقطيف، والرياض، ومكة المكرمة، وجدة، والطائف، وجازان، والقصيم، وتبوك، وحائل، وغيرها كثير.
* عرفنا الكثير من هذه المنتديات الأدبية؛ التي كانت تلبي حاجة ماسة لدى المجتمع إلى جانب الأندية الأدبية، وهي التي كانت في معظمها سابقة للأندية الأدبية وجمعيات الثقافة والفنون بعقود، ورأينا فيها وفي حضورها وبرامجها البناءة؛ ما يذكرنا بمنتديات سبقت من عشرات الأعوام في القاهرة ودمشق وبيروت وغيرها. لقد أدت هذه المنتديات الخاصة؛ دورًا محوريًّا في تبادل المعرفة ونشر الكتاب، والرقي بالذائقة الشعرية والقصصية، وكانت تعرض لتجارب وخبرات أعلام في هذا الميدان المعرفي والأدبي والتاريخي، وقدمت في وقتها؛ أكثر من صورة إيجابية عن مجتمعنا المحب لترابه الوطني، والحريص على ثقافته وتاريخه، خاصة عندما يعتلي منابرها - أو يكون من ضمن ضيوفها- أدباء من هذا البلد العربي والإسلامي أو ذاك، الذين يجدون في أنشطة أدبية كهذه؛ تقدمها مؤسسات مجتمعية مدنية قائمة بذاتها؛ وعيًا متقدمًا للمجتمع السعودي - العربي المسلم- دون دعم رسمي؛ وإنما استحسان من كافة الجهات الرسمية، التي تقدر ما يبذله المواطنون الصالحون الصادقون من جهود ذاتية، فكم من مرة شهدنا مناشط لمنتديات كهذه؛ يرعاها ويباركها أمير منطقة، أو محافظ، أو وزير، أو مسؤول كبير، وأخرى تتابع وتقدر من شخصيات اعتبارية، وأخرى تجارية واقتصادية، ونحو ذلك.
* استرسلت في الكلام على هذا المنوال؛ لأني أرغب هنا في نقل صورة مطابقة لما دار في (ملتقى قراءة النص الأدبي) مؤخرًا، وهو المخصص لهذا النشاط العجيب، الذي لا نكاد نرى له حضورًا اليوم، حتى أن معظم الأوراق البحثية التي عرضت ونوقشت في الجلسات الست على مدار يومين؛ كانت أشبه بـ(التأبينية).. أقول هذا؛ وقد سبق هذه الجلسات في حفل الافتتاح بمقر النادي؛ تأبين حقيقي على شكل تكريم لـ(الاثنينية) الأدبية الثقافية الشهيرة في جدة، ولصاحبها الوجيه الكبير مقامًا وقدرًا المرحوم (عبد المقصود خوجة)، بعد سنتين على رحيله ورحيل اثنينيته، وهو الذي كان يبذل من جهده وعلمه وماله الكثير، لإشاعة المعرفة، وإدخال السرور على نفوس المجتمع الأدبي، الذي كان يترقب اثنينيته كل أسبوع، مثلما يترقب البريد الذي يحمل إليه هدايا هذه الاثنينية من الكتب الجديدة والكثيرة، حتى وهو في أقصى جنوب أو شمالي المملكة.. بل وخارج المملكة. في قارات هذا العالم. شكرت أعضاء مجلس إدارة نادي جدة الأدبي الثقافي، وشكرت الوجيه الدكتور (عبد الله بن صادق دحلان) وجامعته.. (جامعة العلوم والتكنولوجيا)، التي رعت حفل الافتتاح وملتقى النص التاسع عشر. هذه هي مؤسساتنا الخاصة والعامة، وهذا هو مجتمعنا الذي يعطي بلا حدود.
* بعد أن حضرت حفل الافتتاح (التكريمي التأبيني)، الذي خُصص للاثنينية ومؤسسها، وحضرت وشاركت في جلسات النص المخصص هو الآخر للمنتديات الخاصة بالمملكة، وتقديم عرض تاريخي عنها، وعرض سِيَرِي عن أصحابها في عديد المدن.. عندها؛ شعرت أننا بكل صدق؛ لا نقدم في هذه الدورة النصية التاسعة عشر لنادي جدة (سردًا نصِّيا) معتادًا، وإنما نتسابق لتقديم (سرديات قَصِّية) للتاريخ لا أكثر.. نتحدث عن منتديات أدبية فكرية ثقافية كانت بيننا قبل اليوم، فانزوت إلا القليل جدًا. كانت ثم بانت؛ بسبب رحيل مؤسسيها الكبار، الذين كانوا ملء البصر والبصيرة، أو بسبب معوقات أخرى يعرفها الكل، من الذين كانوا ينتظرون مرونة كافية في التعامل مع مؤسسات كانت في يوم من الأيام نماذج صادقة لـ(مؤسسات مجتمع مدني معرفي)، ينطلق من الكلمة المحلقة، التي تتحرك بكل حيوية بين (المنابر والمحابر)، في هذه المنتديات التي كانت.
* حرصت أن أكون أول المعلقين على أول جلسة عمل للدورة، وأن أطالب بتبني توصيات تليق بالأدباء والمثقفين، وبمنتدياتهم العظيمة، التي يتطلعون أن تعود إلى سابق عهدها، وقد تحقق مطلبي، وخلص المؤتمرون إلى عدة توصيات تشيد بالدور الريادي الذي ترمي إليه رؤية المملكة 2030، وأن تضطلع وزارة الثقافة؛ ببرامج ومبادرات مرنة عبر هيئاتها الرسمية، بحيث تدعم الملتقيات والمنتديات الخاصة، وتعزز دورها، وترعاها ماديًّا ومعنويًّا. ودعا المؤتمرون؛ إلى ترسيخ ثقافة تكريم الرموز الثقافية والأدبية، وإبراز جهودهم ومنجزاتهم، لتقرأها الأجيال القادمة، ولتشكل أنموذجًا للقدوات الرائدة في المشهد الثقافي والوطني، ثم أكدوا على ضرورة العناية بالصالونات الثقافية والمنتديات الأدبية الخاصة، والاهتمام بمادتها، وحفظها في أوعية النشر عبر الوسائط الإلكترونية الحديثة، وإصدار (ببلوجرافيا) بالمادة الثقافية والأدبية والإبداعية، التي توحد نتاج هذه الصالونات الثقافية، وتسهيل مادتها للباحثين. ثم دعا المؤتمرون الذين تقاطروا على نادي جدة من كافة المدن تقريبًا، ومثّل أكثرهم المنتديات الأدبية الخاصة؛ دعا الكل ومن جديد؛ إلى ضرورة العمل على إحياء الصالونات الثقافية ذات الجذور التاريخية، وتحويلها إلى مؤسسات مدنية، ترفد المشهد الثقافي السعودي، وأن تتم الاستفادة من وسائل التقنية الحديثة في تعميق أثر هذه الصالونات، وبثها عبر وسائل التواصل الحديثة، وتوسيع دائرة المستفيدين منها، ثم يجري توجيه الأقسام العلمية، والمراكز البحثية في الجامعات السعودية، إلى ضرورة الاهتمام بدراسة أثر الصالونات الثقافية، ودراسة مادتها الثقافية والإبداعية، ورسم اتجاهاتها المعرفية والنقدية والأدبية.
* ختامًا.. كنت وغيري؛ نتمنى لو برز أثناء النقاشات في جلسات (ملتقى قراءة النص)؛ من يمثّل وزارة الثقافة، أو واحدة من هيئاتها المتعددة، لنعرف وجهة النظر الرسمية في الكثير مما طُرح. لم يحدث. ولعله يحدث مستقبلًا؛ إذا عكفنا في ملتقى كهذا؛ على دراسة: (النَّصّ الأدبي) لهذه المنتديات الخاصة. إذا.. إذا عادت للواجهة. أتمنى حينها؛ أن نأخذ بـ(النَّصّ)، وأن لا نلجأ لـ(القَصّ) في مرات قادمة.