د. محمد بن عويض الفايدي
يموج العالم بتحولات ومعطيات تحضّر سريعة وجريئة، يُخيل أنها أقرب إلى الخيال الذي يُبهر، ليجعل من الحياة عامة معترك صراع ساخناً، ومن مجال العمل والوظيفة ساحة تطاحن تُحرق. في تصور أن ذلك محصلة تلقائية للحجم الكبير من الضغوطات النفسية والاجتماعية والاقتصادية التي تفرضها أنماط الحياة العصرية، وضغوطات العمل والكسب ومتطلبات الإنتاج وبيئات الأعمال وحواضن الأداء الوظيفي، في ظواهر عدة من أبرزها ظاهرة «الاحتراق الوظيفي» الذي أوشك أن يعم غالبية العاملين في القطاع الحكومي والقطاع الخاص وحتى القطاع غير الربحي الذين تسلّل إليهم الملل والضجر والسخط والتذمر من طبيعة وبيئة أعمالهم المرهقة من وجهة نظرهم. فما هي خلفية ظاهرة الاحتراق الوظيفي؟ وما دور السلوك القيادي في شيوعها؟
الاحتراق الوظيفي مفهوم يعكس حالة نفسية وجسدية وذهنية تُصيب الموظف وتجعله مشغول البال، وعصبي المزاج، وفاقد الرغبة في العمل، ويصاحب ذلك انخفاض في مستوى الإنتاجية، مع الإحساس بالإرهاق الجسدي والذهني الناجم عن ضغوط العمل وإفرازات بيئته.
يُصيب الاحتراق الوظيفي في الغالب الموظفين والعاملين الذين يُمضون فترة ليست قصيرة في نفس العمل والمكان. ويختلف طول المدة المؤثّرة بحسب نوعية النشاط وطبيعة الممارسة العملية، وكيفية تنظيم ساعات العمل. ويبدو أن التوجيه الرباني قد حدد المدة بنحو 8 سنوات {عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} الآية 27 سورة القصص. وكل الدراسات المحددة لهذا الجانب تتمركز حول هذه المدة بضع سنين نحو ثمان إلى سبع سنوات، في الغالب من يستمر في موقع عمله في حدود هذه المدة ولم يحصل له تدوير سوف يُصاب بالاحتراق الوظيفي وقد يكون في مدة زمنية أقصر من ذلك.تتلخص ملامح الاحتراق الوظيفي في أعراض تُلازم المصاب. من هذه الأعراض القلق والتوتر وعدم راحة البال والانزعاج، وعدم الرضا عن النفس، وسرعة الانفعال وعدم التحمّل ونفاد الصبر، والوهن والعجز والافتقار إلى الطاقة اللازمة لأداء الأعمال وإتمام المهام. إضافة إلى الشعور بالصداع، والخمول، والكسل، وعسر الهضم، وفقدان الشهية، والصعوبة في التركيز، وعدم الرغبة في الحوار والنقاش.
تفادياً للتعرّض لهذه الظاهرة، التي قد تمتد لنحو 3 سنوات في حالة الإصابة بها فإن الرؤساء مدعوون لتطبيق سياسة التدوير الوظيفي بتغيير المواقع والأدوار المناطة بالعاملين كل بضع سنين في أطار الاهتمام بالحوافز وكسر الجمود وتجديد النشاط لرفع الكفاءة الإنتاجية. وكذلك تحييد العوامل المؤدية للاحتراق الوظيفي المتمثلة في سوء القيادة، وغياب المعايير الأخلاقية الوظيفية، وانتشار ضغوط العمل بحيث تكون المهام غير متناسبة مع القدرات والإمكانيات ومدة الإنجاز، ومحدودية الصلاحيات بعدم تكافؤ السلطة الممنوحة مع المسؤوليات والمهام محل التكليف، ونقص الحوافز المادية والمعنوية، وتدني العلاقات الإنسانية وضعف الروابط الاجتماعية في بيئة العمل على اعتبار الإنسان كالأدوات والآلات، وشيوع الظلم والقهر الوظيفي بحرمان المتميز من الفرص التي يستحقها وشغل المناصب بغير الكفء والمطالبة بدقة وسرعة الإنجاز دون توفير الأجهزة والتجهيزات اللازمة لذلك، وصراع القيم بعدم التوافق أو التناشز بين المبادئ والقيم النبيلة السائدة في المجتمع وبين ما يتصل بالعمل ويخالفها من تعسف وغش وكذب وتدليس وابتزاز وتملّق وإساءة سلطة وضعف أمانة. مما ينبغي معه فهم هذه العوامل والعمل على تحييدها لخفض مخاطر الاحتراق الوظيفي الأكثر تحديًا.
الأكثر عرضة للإصابة بالاحتراق الوظيفي في الغالب من تتصل طبيعة أعمالهم بالخدمات الإنسانية بما في ذلك الباحثون الاجتماعيون والممرضون والمعلمون والمحامون والأطباء والمهندسون ورجال الشرطة والمهنيون عامة الذين تتصل أعمالهم اتصالاً مباشراً بالجمهور في القطاع العام والخاص وغير الربحي. وتكون أكثر حدة بين من يبدي اهتمامًا بالغًا بعمله ويتصف بالمثالية والالتزام. ويبدو أن مظاهر الاحتراق الوظيفي تظهر كذلك بنسب متفاوتة بين الفنيين في مجال تطوير برامج الحاسب الآلي وحقول البحث والتطوير. وحتى العاملين في الوظائف الإدارية، وفي أقسام السكرتارية. ويبدو أن ظروف العمل النفسية والاجتماعية والمهنية السائدة في بيئة العمل تؤسس منطقة رخوة لتفشي ظاهرة الاحتراق الوظيفي إذ نجد أن الموظف يمكث في وظيفته بدون تغيير أو تطوير أو تدوير مدة طويلة قد تزيد على عقدين من الزمن. وقد يحصل أن بعض العاملين يمضي خدمته كاملة في مكان واحد دون أي تغيير أو تطوير وهؤلاء هم الأكثر عرضة للاحتراق الوظيفي وضحايا نهج عمل غير مرن وأسلوب تقليدي في الإدارة تصبح الإنتاجية فيه متدنية، وقد تقترب من الصفر. والذي بدوره يؤثّر على الكفاءة الإنتاجية لكامل القطاع والكيان الإداري ككل. ومن الأهمية بمكان إحداث تغيير في النمط القيادي والنهج الإداري في الكيانات الإدارية ومن ذلك الاهتمام بالعاملين خاصة في القطاع الحكومي ومن ذلك تقليص نظام البيروقراطية والالتزام المهني الصارم، وإحلال بدلًا عنها قيم التميز والإبداع وجعل العمل رسالة أداء في وجدان كل العاملين للارتقاء بمستوى الإنتاجية وجودة الأداء بدلًا من الركون للبيروقراطية بمفهوم السلبي من روتين وتعقيد وكثرة مستندات وتقيد بتعليمات وأوامر مكتوبة.
تنطلق معالجة ظاهرة الاحتراق الوظيفي بداية من تحديد مظاهرها، والاستعداد المسبق للتغلب عليها، والسعي لتخطيها إذا ما حصلت، وذلك بقوة الإيمان والإرادة والصبر، والتعلّم والتدريب، والاطلاع المستمر على أفضل التجارب والخبرات والمعارف العلمية والعملية للتخلّص من ضغوط العمل وتحدياته اليومية وإفرازات مشكلاته التراكمية، والاستعانة بالخبراء والمستشارين المتخصصين في هذا المجال.
لمعالجة تبعات الظاهرة أيضًا يمكن اتباع حزمة من الإجراءات منها إشاعة جو من التفاؤل والأمل بتوسيع دائرة العلاقات الإنسانية والاجتماعية على المستوى الوظيفي والمستوى الاجتماعي العام، وانتقاء أصدقاء لديهم روح التفاؤل والأمل. وممارسة الرياضية بانتظام، وأخذ قسط من الراحة لبعض الوقت بعيدًا عن بيئة العمل بالتمتع بالإجازات والاستمتاع بالسفر، والتدبر بما أودعه الخالق في الكون من توازنات عجيبة تقود إلى القناعة والتسليم بما هو متاح للإنسان وأنه هو الأفضل. والعمل على تحسين جودة الغذاء والنوم والاسترخاء، وجعل مساحة يومية للقراءة واليقظة الذهنية بإعمال الذهن على التفكير والتدبر المستمر. والبعد عن كل مصادر التوتر، واللجوء إلى الأشخاص محل الثقة من زملاء العمل ومن خارجه وطلب مساعدتهم للتعافي من تداعيات الاحتراق الوظيفي الذي يُعمّقه سوء القيادة وفساد الإدارة.
التحديات القيادية والإدارية معطى في عالم اليوم لا يمكن تجاوزه، وينبغي على القادة وصنَّاع القرار أن يتأملوا حجم هذا التحدي وانعكاساته على الجوانب النفسية والاجتماعية والإدارية للعاملين، فمستوى الضغوط النفسية والانزعاج وعدم راحة البال سمة طغت وتعاظمت في العصر الحاضر. مما يُنذر بأن خطر الاحتراق الوظيفي لن يكون قاصرًا على الأفراد، بل سيتعداه إلى الكيانات والمؤسسات، وقد يصيبها أيضًا بالفشل على المدى الطويل نتيجة للآثار السلبية التي تؤدي إلى تدني أداء الكيانات والعاملين بها على وجه سواء.يبدو أن ضغوطات الحياة تعاظمت، وطبيعة الأعمال والوظائف والمهن ومدى ارتباطها بالخدمات الإنسانية، ومواجهة الناس تُعرّض أكثر للاحتراق الوظيفي. ذلك لأن التعاملات اليومية مع عدد كبير من الناس قد يصاحبه عدم القدرة على تلبية كل ما يتوقعونه.
تزداد إمكانية الإصابة بهذا الداء الذي يُعد نتاجاً لمجموعة أعراض من الاستنزاف الوظيفي والإجهاد الذهني، والتبلّد الحسي، والشعور بعدم الرضا عن الإنجاز العملي، والأداء المهني. والذي قد يحدث عندما يتراجع التوافق بين طبيعة العمل وتركيبة الإنسان الذي يؤدي ذلك العمل وكلما زاد التباين بين هاتين البيئتين زادت نسبة الإصابة به.
تتداخل ظاهرة الاحتراق الوظيفي مع مظاهر ظواهر أخرى تتشابك معها من أبرزها عدم النضج القيادي، واتجاهات الفرد نحو المهنة، وكفايات الموظف، وصعوبة التفاعل الاجتماعي، وفقدان الرضا الوظيفي، والصعوبات الإدارية والمهنية. وقد تكون بيئة العمل، واتجاه الفرد نحو المهنة المحدد الأساس لما تحمله طبيعة الوظيفة والمهنة من عوامل متداخلة تقود إلى تحديات نفسية وجسمية واجتماعية تفرز سخطاً عاماً يُورث الاحتراق الوظيفي خاصة بالنسبة للأشخاص الذين في الواجهة وتتكالب عليهم حزمة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية، والنفسية، والتطورات التقنية غير المستوعبة، والممارسات القيادية والإدارية التعسفية.
القيادة وأسلوب الإدارة مركز صناعة اليأس والإحباط، فالفشل القيادي والتردي الإداري نتاجه بيئة سوداوية مخرجاتها نفوس محطمة وجهود مبددة وإنتاجية متدنية، ورمزيتها العزوف عن جودة الإنتاج وكفاءة الأداء، وإحلال محلها اليأس والإحباط محط الاحتراق الوظيفي وبداية تكونه ليصعد ويتعاظم حتى يقضي على التفاؤل والطمأنينة والمبادرات الإيجابية والثقة العالية بالنفوس ويحيلها إلى ركام شعاره السلبية والتشاؤم والانهزامية وسوء الأداء وتراجع الإنتاجية.
منهج القيادة الفعَّال وأسلوب الإدارة المتزن يُبدد الإحباط واليأس والتشاؤم ويصنع السعادة والأمل ويُحول مكان العمل إلى واحة فواحة جاذبة غير منفرة تتوحَّد بها الجهود، وتلتقي فيها الرؤى، وتتكامل في إطارها القدرات، وينطلق منها الإبداع، ويتجسَّد في منظومتها الابتكار. فالمسؤولية في الأصل قيادية فالقادة هم من يتحمَّل مسؤولية قيادة وتوجيه الأنشطة التي يؤديها الآخرون، ويُنظر إليهم على أنهم محور تنظيم الأنشطة والعناصر كلها، فهم من يُحدد خطط العمل وينظِّم وينسِّق ويُتابع الجهود ويُزوِّد بالإمكانات ويعمل على ترابط الوحدات والدفع بها لإنجاز المهام وبلوغ الأهداف. فواقع اليوم يفرض على علماء القيادة والإدارة الخلوص إلى منهجية قيادية ونظرية إدارية جديدة تواكب التحولات وتعالج التحديات.