نوف بنت عبدالله الحسين
بلا سابق وعد وانتظار، وصلتني دعوة من شخصية مغلفة بالجمال لا يمكن أن تأتي دعوة بهذه الروعة إلا منها، تواصلت معي (مها الباز) لتنسق معي إن كان مناسبًا الحضور لليوم الأخير من المسرحية الشعرية الغنائية (معلقاتنا امتداد أمجاد) فوافقت، ومن ذلك اليوم والأحلام تراودني عن هذا المشروع الإبداعي الذي نترقبه منذ مدة، وحين جاء اليوم الموعود، ارتديت عباءة تحاكي المعلقات بألوانها وتهندمت كعادتي في حضور عمل يستحق أن أكون حاضرة فيه بكل لياقتي الذهنية ورشاقتي النفسية لأستمتع بكل التقاطة تلتقطها عيني أو مسمع يداهم سمعي، فكان اللقاء الساعة 8 مساءً، وعلى الموعد انطلقنا، ووصلنا المسرح الأحمر بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن، جلسنا في مقاعدنا المتجاورة VIP رقم المقاعد C211-C210 ، مكان إستراتيجي يجعلني أرى الإبداع من جميع زواياه عبر ثنايا التنظيم وروعة التنسيق وجمال خشبة المسرح المزخرفة لتوحي لنا بأن القادم المختبئ جميل ومدهش. على المقاعد يوجد دليلان للمسرح، على هيئة مجلة أنيقة وجاذبة، في المجلة الصغيرة ذات الغلاف الأخضر، نبحر مع قلم الأمير عبدالرحمن بن مساعد، ثم ننتقل لرأي العبقري الأمير أحمد بن سلطان (سهم)، يليها صفحة علّق فيها أ/ سلطان البازعي الرئيس التنفيذي لهيئة المسرح والفنون الأدائية، ثم صفحة المخرج المبدع عامر الحمود، ثم صفحة كتبها أ/محمد زكي حسين (بنش مارك) موضحًا من خلال كلمته باعتبار العمل أول مسرحية شعرية غنائية في تاريخ المملكة، ثم أظهرت الصفحات الأخرى أسماء المشاركين (مبدعو المسرحية -الرواة - المغنون حسب الظهور - الممثلون الرئيسيون- الممثلون- ممثلو شعراء المعلقات- وأسماء جميع من شارك في هذا المشروع الضخم) يلي ذلك اللوحات الفنية، وقبل أن أكمل المجلة، وأبدأ بالمجلة الثانية التي تضم القصائد ذات الغلاف الأحمر، بدأت المسرحية، افتتحت المسرحية بصوت الشاعر الأمير عبدالرحمن بن مساعد، لننتقل بعدها إلى مشهد مذهل من خلال افتتاح معرض تشكيلي, وهنا استوقفتني لغة جديدة في عالم الأداء المسرحي، فراشد الشمراني وإلهام علي وأسيل عمران وأيمن مظهر قدموا هذا المشهد ببراعة، وفي لحظة مدهشة جمعت كل الفنون في قالب واحد، ومهما حاولت أن أصف عبقرية جمع الفنون من مسرح وشعر ولوحات ولغة أخاذة وأغنية رنانة، فإنه يصعب عليّ التفسير، فليس من شاهد كمن سمع، وهنا كانت الشرارة المذهلة حين نطقت اللوحات, وتناثرت علينالقصائد والمعلقات لتحكي لنا قصة الأمجاد، ومع لفيف من الممثلين الذين أدوا أدوارهم المساندة للممثلين الرسميين (علي الزهراني- سارة بهلكي- سعيد المانع- أحمد الرشيد- أفنان كلنتن- عبدالرحمن بدر) ساهم بدعم وظهور وإبراز القوة الأدائية للممثلين جميعًا وتسليط الضوء على براعة الممثلين الرئيسيين.
وبعد...
كم كان جميلًا ظهور أصحاب المعلقات الشعراء الفلاسفة المبهرين، فكان اللقاء الأول من خلال الحوار المذهل الذي صاغه الشاعر فهد عافت ما بين (هو وهي) ألحان صادق الشاعر يقدمها الثنائي المبدع في هذه الليلة (عايض القرني وأميمة طالب) ليظهر لنا الأعشى ( ودّع هريرة إن الركب مرتحل) ويقدم لنا الشاعر محمد جبر الحربي مجاراة مذهلة تحكي لنا حكاية التأسيس على يد الإمام محمد بن سعود، ثم تتالت المعلقات، ليظهر لنا طرفة بن العبد (لخولة أطلال ببرقة ثهمد) ومعلقة يجاريها المبدع عبدالرحمن بن مساعد بن عبدالعزيز، في قصة تتحدث عن توحيد المملكة على يد المؤسس الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه - ثم يظهر لنا عبيد الأبرص ومعلقته (أقفر من أهله ملحوب) يجاريها الشاعر يحيى رياني ليحكي عن الملك سعود رحمه الله وإنجازاته يظهر لنا بداية الأمجاد في مشهد جميل وحالم، ثم المعلقة الرابعة (آذنتنا ببيننا أسماء) للحارث بن حلزة يجاري معلقته الشاعر فواز اللعبون، وقصص من عهد الملك فيصل رحمه الله وسط مشهد ملفت لنهضة الصناعة، ثم استوقفني مشهد عزف مذهل وحوار عاشق لوطن يستحق العشق، فيعود لنا الشاعر فهد عافت ويصيغ لنا أبياتًا مطلعها:
هي: أراك طروبًا
هو: كيف لا.. والهوى دمي
ومملكتي خضراء.. والحب ملهمي
ألست معي؟
هي: ياللسعودي في الهوى
إذا ما أذاب الشوق قلب متيّم.
نعم نحن عشاق لوطن محب حاضن داعم قائم راسخ آمن مطمئن، فالحمدلله، بعد ذلك يظهر لنا الزهير بن سلمى (أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم) ليجاري هذه المعلّقة الشاعر سلطان السبهان، ويحكي عهد الملك خالد والتطور الإعلامي الذي حدث في عهده، ثم ظهر لنا النابغة الذبياني (يادرا مية بالعلياء فالسند) يجاريها الشاعر سلطان الضبط، ويعرض فيها عهد الملك فهد رحمه الله وأي تأثير أصابني حينها... فحين ظهرت صورته أمامي ذرفت الدمع قليلًا وابتسمت كثيرًا ورددت (يادار فهد وكم للفهد من سير تضيق في رحلة الأزمان بالعددِ) ثم يظهر لنا امرؤ القيس (قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزل) وقصيدة يجاريها جاسم الصحيح، وهنا الدمع رقراق والفخر أعظم حين ظهرت صورة أبو متعب الملك عبدالله (أبو متعب واهتز في الشعب قلبه وفاءً لذياك الحبب المدلل) ومشهد مسرحي مذهل يعكس المدينة الجامعية العظيمة جامعة الأميرة نورة.
ثم يعود الحوار بين هو وهي، والشاعر فهد عافت:
المورقات الصبح رف حمامها
والعاديات الصفح حل لجامها
والسلم من سلمان صاغ حروفه
والحرب تعرف أنه مقدامها
مذ جئت يا سلمان سيّلت الربا
والأرض بشّر سنامها
لتظهر لنا معلقة لبيد بن ربيعة (عفت الديار محلّها فمقامها) يجاريها الشاعر حاتم الزهراني، وهنا ضج المسرح بالتصفيق والتناغم بعهد نعيش روعته وأصالته ونهضته واستباقه (والشعر صار الشعر بعد قصيدة ملك الجزيرة بدؤها وختامها)
ومازال الحوار مستمرًا
هو: لمن انتماؤك
هي: للمحبة أنتمي
صبح يغازلني وآخر يرتمي في الباب
هو: والباب ابتسامة فارسٍ
فتحت لنا الآفاق
هي: بالتلعثمي (وطني الحبيب وهل أحب سواه)
ويظهر لنا عنترة بن شداد (هل غادر الشعراء من متردّم) وهذه المرة يحاكيها فهد عافت (من يا محمد بن سلمان الذي سيفيك فاغفر حيرة المتكلّم)، إنه عرّاب الرؤية ابن الأكرم، سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد الذي قفز بنا إلى سنوات بعيدة فشاهدنا المستقبل معه قبل أن يبدأ.
هل انتهت المسرحيّة؟ لا فما زال في الحب بقيّة، ليعود الحوار مرّة أخرى:
هو: سعوديون نبقى ما حيينا
لنا ما نشتهيه ويشتهينا
ويصدح الكورال: ألاهبي بصحنك فاصبحينا، ويظهر لنا صاحب هذه المعلّقة عمرو بن كلثوم ، يجاريها الشاعر تركي العنزي
(فإن نفخر.. فخير الخلق فينا
وخير عقيدة ..لله فينا
وإن نفخر فإنا في شموخٍ
تطالعه الخلائق شاخصينا
سعوديون والحكّام منا
كرام في ظلال الأكرمينا)
فماذا تبقّى بعد ذلك سوى أن نزيد هيامًا وعشقًا في وطن وملوك وشعب، وحق عليّ أن ألقي ببعض الضوء على الأصوات العذبة، (حمزة) ذو الصوت الشجي والموال الأخاذ، (فؤاد عبدالواحد) والعُرَب المدهشة، (سهى المصري) والصوت العذب الرقيق الأنيق، (ناصر نايف) ينقلك إلى الحماسة والأصالة بصوته، (فهد العمري) الطائر الغريد ذو الصوت العميق، (إيمان الشميطي) وفخامة الصوت الشامخ، (زينة عماد) وعذوبة النغم القريب الذي يرن في القلب مباشرة.
فشكرًا لهيئة المسرح والفنون الأدائية، وشكرًا للشاعر الأمير صاحب الفكرة الإبداعية، وشكرًا للمبدعين الذين أمتعونا في هذا الحفل، ومني أنا شكرًا مها على هذه الليلة.