أ.د.عثمان بن صالح العامر
لكل بداية نهاية، ولكل أجل كتاب، وكما أن الإنسان يمر بمراحل من العمر مختلفة الأحوال قوةً وضعفاً، شباباً وشيبةً، فكذلك الأستاذ الجامعي يمر بالمراحل ذاتها يبدأ حياته الوظيفية في الفضاء الأكاديمي (صغيراً) بدرجة (معيد)، ثم يصبح (مراهقًا) حين يحصل على الماجستير ويعين (محاضراً) في الجامعة. وعندما ينال درجة الدكتوراه ويعين (أستاذاً مساعداً) ينعت في الوسط الأكاديمي بالدكتور، ويكتب أمام اسمه رسمياً حرف الدال. في هذه الحالة يبدأ الناس من حوله يتحدثون عن مجيء الدكتور، سيارة الدكتور، ومحاضرة الدكتور. في ظل هذا الاحتفاء المجتمعي قد يغزو صاحبنا الذي كان غراً قبل سنوات معدودة غرور (الشباب)، ونشوة الشباب، وفخر الشباب، وزهو الشباب.
وما هي إلا أربع سنوات تزيد قليلاً وربما تطول أكثر من ذلك حتى يترقى إلى (أستاذ مشارك)، ومع حصوله على هذه الدرجة الأكاديمية يشعر بأنه تجاوز فورة الشباب، وصار مع تقادم العمر الأكاديمي أكثر نضجاً، وأعمق إدراكاً، خاصة أنه ربما قارب الأربعين من عمره أو زاد، وهو في هذه المرحلة الوظيفية صار (رجلاً أكاديمياً) يوثق به، يصبح لكلماته في مجتمعه رنين، وقد تسند له المناصب القيادية، ويشارك في المؤتمرات المحلية والدولية، ويحكم الأبحاث التخصصية، ويناقش الرسائل العلمية، وتسلط عليه الأضواء من قبل الدوائر الرسمية والقطاع الخاص، ويستضاف في القنوات الإعلامية والمنتديات المعرفية، وتتاح له فرصة التدريس في الدراسات العليا. ومع هذا النشاط - الذي ربما عززته الفرص التي أُتيحت له وسنحت بعد أن بلغ هذه المرحلة المتقدمة في المسار الأكاديمي - يستطيع غالباً إنجاز الأبحاث المطلوبة للحصول على درجة أستاذ دكتور (برفيسور) التي هي أعلى الدرجات الأكاديمية. ومتى تحقق له ذلك شعر مجرد شعور أنه الآن، بناء على وضعه الجديد، قادر على تحقيق أحلامه وآماله وطموحاته الأكاديمية والقيادية والمالية العريضة التي داعبت خياله منذ كان معيداً، والحقيقة خلاف ذلك، مع واجب التنبيه هنا أن الأكاديميين ليسوا جميعاً على درجة واحدة في هذا الأمر، فهم يختلفون في عدد السنوات التي يمضونها في مرحلة الأستاذية وصولاً لمرحلة (الشيخوخة الأكاديمية) التي بها أرذل العمر، باختلاف طبائعهم الشخصية، وذكائهم الاجتماعي، ومهاراتهم الذاتية، و تخصصاتهم العلمية، ومناطقهم الجغرافية، وعلاقاتهم المجتمعية، ولكن في الغالب الأعم مع تقادم الأكاديمي في هذه الدرجة العلمية يصبح ممن انتظموا في منظومة من ولجوا (الشيخوخة) خاصة حين يصير طلاب هذا البرفيسور زملاء له، بل ربما أصحاب قرار فيه، فهم من يرسمون خارطة مساره العلمي والعملي داخل أروقة الجامعة، هم من يسمحون له بحضور المؤتمر والمشاركة في لقاء وطني، والقاء محاضرة خارجية، وعقد دورة تدريبية، أو يرفضون، هم من يتابعون جدوله، ويقيمون أداءه الأكاديمي، هم... وهم... وتحت ستار التقدير والاحترام، وحتى لا يعلو صوتهم صوته لا يشركونه باللجان التي يرأسونها، يظهرون له كل معاني الاحتفاء والتبجيل حين يقابلونه، دون أن يصاحب ذلك إشعارهم له بأهمية الاستفادة من قيمته العلمية وخبرته الأكاديمية وربما القيادية الإدارية، إذ ليس من مصلحتهم اشخصية ظهوره في دائرة الضوء، وربما لأنهم يعتقدون أنه غير قادر على فهم آلية العمل في المرحلة الحالية، ولذلك هم ينتظرون انقضاء ما تبقى من سنوات عمره الأكاديمي بفارغ الصبر حتى تزول عنهم حالة الحرج من وجوده بينهم مع كونه في الهامش لا في الصدارة كما كان، أو على الأقل في دائرة الوسط.
في هذه المرحلة أو على الأقل في سنوات الأكاديمي الأخيرة يعود كما هو عليه حاله حين كان صغيراً (معيداً في الجامعة) يلقي محاضراته ثم يولي هارباً من شبح أسئلة من غاب عنهم ردحاً من الزمن عنوة وقصداً (أين أنت غائب عن الساحة الأكاديمية، ما تقاعدت، كم بقي لك، ما نرى لك حضور في فاعليات وأنشطة في الجامعة؟)، لأنه باختصار يحس بالغربة الوظيفية، ولا يملك جواباً مقنعاً لهذا السيل من الأسئلة المحرجة. يظل الأمر هكذا حتى لحظة (الموت الأكاديمي) ببلوغ الستين عمراً أو الأربعين خدمة، والتي معها يسدل الستار على تاريخ هذا الرجل الذي أمضى حياته بين الكتب وعلى مقاعد القراءة والتأليف. والمفترض ممن وصلوا لهذه المرحلة محل الحديث أو قريب منها أن يتعاملوا مع هذا التبدل على أنه أمر طبيعي جداً بل هو الأصل والمفترض أن يكون في جامعاتنا، مع العلم أنه قبل ذلك وبعده سنة من سنن الله في الكون والإنسان والحياة أجمع، عليهم أن يستمتعوا بسنواتهم الأكاديمية الأخيرة، أن يعيشوا لأنفسهم ولأسرهم، يتفرغوا للتأليف والكتابة التي يريدون بها تحقيق علم ينتفع به فيما بقي من حياتهم وبعد موتهم ، يكون ميراثاً خيراً لهم يبقى، ويلقون به وجه الله عز وجل بعد رحليهم عن هذه الدار إلى عالم الآخرة، والسلام.