د. محمد بن إبراهيم الملحم
اختيار التخصص هو معضلة كل شاب، ويدعى هذا الموضوع في الأدبيات التربوية بـ»التوجيه المهني» Career Guidance، ويسمى أيضاً Career Counselling، وهو من فروع الإرشاد الطلابي والنفسي وله مقاييس سيكومترية مقننة، وهي أجنبية فقط -مع الأسف- أما العربية فلم تقنن وهي مجرد اجتهادات هنا وهناك. هذا الموضوع كان ولا يزال مما أنظر إليه كمعضلة تواجه أبناءنا الطلاب في كل المستويات بدءًا من المرحلة المتوسطة وحتى الجامعة، حيث بعد المتوسطة تفتح أمام الطالب الفرص للتخصص ليقرر أية ثانوية يتجه إليها إذا أنهى المتوسطة (الثانوية العادية أو المهنية مثلاً)، وبعد الصف الأول الثانوي يُطلب منه أن يحدد تخصصه علميًا أو أدبيًا سابقاً أو المسارات حالياً، ثم المعضلة الكبرى بعد التخرج من الثانوية يأتي قرار اختيار الكلية ثم التخصص ضمن الكلية، ولا بد أن نذكر أيضاً أنه في كثير من الأحيان يكون لاختيار الجامعة نفسها قيمة تحتاج إلى التأمل والتفكير.
كل هذه قرارات وكما تعلمون القرار يحتاج إلى «معلومات» وهي نوعان هنا: معلومات عن الشيء الذي سنتخذ القرار نحوه، ومعلومات عن أسلوب التفكير في اتخاذ القرار، فأما النوع الأول فهناك نقص كبير في توفير معلومات عن التخصصات وأين هي فرصها الممكنة في البلد، وأحياناً يظن الشخص أن تخصصاً من التخصصات مهم وله مجال واسع بينما هو غير ذلك كما يحدث مثلاً لذلك الذي يتجه لكلية الهندسة مشدوهاً باسمها ثم يتخصص في تخصصات غير مطلوبة بكثرة كالهندسة الصناعية، حيث يتوقع من وفرة المصانع تواجد فرص متاحة بينما يتفاجأ أن زميله المهندس الميكانيكي مطلوب في المصانع أكثر من المهندس «الصناعي». ولا شك أن وعي الطالب بمعاني هذه التخصصات ومجالاتها مسألة مصيرية فلا يكفيه أن يبني قراراته على أسمائها فقط ومعلومات يسيرة عنها، وهو ما يحصل غالبًا مع الأسف، وتتضاعف هذه الإشكالية أكثر في ظل عدم فهم كثير من الكبار حولهم (كالآباء والمعلمين) لهذه التخصصات وكيف يرشدون أبناءهم وبناتهم أو طلابهم وطالباتهم، وتقف المؤسسة التعليمية بكل أحجامها: المدرسة فأكبر من ذلك، متثاقلة في تقدير أهمية هذه القضية ومد يد العون فيها. وإذا كنت أتوقع شيئاً من العطاء النوعي من المؤسسات الكبرى كالوزارات والهيئات فلديها الموارد والإمكانات، فإني أشك كثيرًا في قدرة المدرسة بمحدودية خبراتها ومواردها أن تقدم إسهاماً مهماً للطالب أو لولي أمره.
ينبغي لمؤسسات التعليم العام بكل مستوياتها أن تعمل على توضيح التخصصات وما تتضمنه من معارف ومهارات والتوقعات التطبيقية لكل تخصص لكي يفهم الطالب بتفكيره البسيط ومستواه وخبرته المتواضعة أين سيضعه هذا التخصص أو ذاك، وهذا أمر تقدمه بعض الجامعات مشكورة في الدليل الذي تصدره عن كلياتها وتخصصاتها ولكنه ليس سنة متبعة على الدوام في كل جامعة وإنما هو ممارسة اجتهادية من باب القيمة المضافة، بل إنك قد تجد تلك الجامعة المجتهدة وضعته في دليل تخصصاتها لسنة ما من سنواتها ولا تجده بعد ذلك! لذلك أرى أن تنبري وزارة التعليم (لأن المستفيد الأول هم طلابها) وتجمع كل أدبيات تلك الأدلة وتضعها في كتاب واحد يتصفحه طلاب التعليم العام وأولياء أمورهم (والمعلمون كذلك)، ويكون متاحاً عبر موقعها الإلكتروني مع الترويج الكافي له ليصل إليه كل من يحتاجه في الوقت المناسب، والواقع أن ذلك مهمة سهلة لا تحتاج إلى أكثر من تكليف شركة متخصصة في جمع المعلومات وتنظيمها للقيام بهذه المهمة، ثم تكليف جهة مختصة في الوزارة لتحديث الدليل كل ثلاث سنوات بأية تخصصات جديدة ظهرت في جامعاتنا أو الكليات الجامعية. وللحديث بقية.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً