لا زالت أصداءُ جرسِ ذلك اليوم عاليةً بداخلي حتى اليوم..أعلم أنه لم يتبقَ منك إلا عظامٌ ترقد تحت التراب، ولكن طيفكَ لا زال حيًّا يركض أمام ناظري.
كان قلبي يجفلُ إلى أبعد مكانٍ في الكرةِ الأرضيةِ عندما أسمع صوتَكَ الأجشَّ وأنت قادمٌ من بعيدٍ تنادي عليَّ و تقذفني بأقبحِ الكلماتِ التي لم أكن أدركُ سببَها!
تبصقُ عليَّ عندما لا يروق لك عملي فما يكون مني إلا أن أمسحَ ذلك السائلَ عن وجهي وأن أتراجعَ إلى الخلفِ ببطءٍ شديدٍ قبل أن يَلحقَ ذلك البصقُ اليوميُّ ضرباتٍ من العصا التي لا تفارقك؛ لكونها أشدُّ التصاقًا بك من ظلك.
كنتُ أشتعلُ من الداخلِ عندما أرى شقيقك يشفقُ على أطفاله ويحنو عليهم كالطيرِ التي ترفق بصغارها، أنت لا تبالي إن كنت جائعاً أو عارياً كلُّ همِّكَ أن تمضي وقتَ متعتِكَ في داخلِ ذلك الكهفِ القابعِ خلفَ بيتنا.
عندما كنتُ ألعبُ مع الأولاد وتغردُ فرحتي إلى كبدِ السماء فتتشكلُ السحبُ على هيئةِ الطيورُ المحلقة فيرقصُ قلبي كالمجنونِ الذي احتلبَ الحبَّ من ماءِ السماء.
كنتَ تأتي يسبقكَ غبارُ قدميك وصوتك الذي يشبه الرعد، تمسكُ برقبتي ثم توسعني ضرباً وبعد ذلك تقيِّدُ رجليَّ و تسحبني أمام الجميع فتختلط دمائي الممزوجةُ بالتراب و دموعي التي تلجمها بكلمةٍ اسكتْ : ألست برجل!!
غابت فرحةُ الطفولةِ داخلي فلم أَعد ألعب مع أحد، أفردت لنفسي مكانا لوحدي في الخلاءِ البعيدِ أقصده متى فاضَ الهمُّ حتى أصرخ ثم أعود أدراجي إلى بيتنا، ذلك الخراب الخالي من أهمِّ أساسياتِ الحياة!
كانت جدتي تساعدُ زوجةَ أبي في إعدادِ الطعامِ الذي يؤكل على أرجل واقفةٍ دون الشعورِ بالأمانِ و إن كنا جالسين!.
عندما كانت جدَّتي تمنحُني القليلَ من قوتِها الذي أَفرغَه جدِّي قبلَ أبي، فهي في بعضِ الأحيانِ تربتُ على كتفي وتمسحُ على رأسي كما أفعلُ مع عصفوري الصغيرِ الذي كنتُ أخبئه بعيداً عن قِطَّةِ أبي التي لا تتوقف عن أكلِ الطيورِ و الفئرانِ وما تجده يدبُّ حولها من كائناتٍ ضعيفة.
لقد سئمتُ من منظرِ الدمِ الذي كانت تتلمظ به بعد كلِّ أكلةٍ تأكلها بشراهة، لازالت صورةُ ذلك الضفدعُ لا تبرحُ خيالي فما إن بدأ يصدرُ أصواتَه بجوارِ البئرِ الرابضةِ بالحقلِ حتى هجمتْ عليه بعد عمليةِ ترقُّبٍ طويلةٍ بعينيها التي كانت تلمعُ من بعيد.
أخذتْ تعضُّ عليهِ بأسنانها حتى قضتْ على آخرِ أنفاسه، أصدرتْ بعد ذلك مواءَ نصرٍ، مشتْ بتبخترٍ إلى أن وصلتْ إلى البيتِ، لم تبالِ بنظراتِ القهرِ التي كنتُ أذرفُها من عيني، هي تعلمُ أنها سيدةُ البيتِ و إن تعرضتْ للأذى، تعرضُ الجميعُ لصعقٍ كهربائيٍّ من أبي.
لا أدري لماذا لم أقوَ على أن أجرفَ سقم السنواتِ وأنا أهيلُ عليك التراب، تحجرتْ دموعي داخلَ عينيَّ؛ تلك الدموعُ التي أمرتني أن أوقفَها عندما ماتت جدتي قائلاً : (خلِّك رَجَّال) صوتُك خنقَ بداخلي جميعَ معاني الحُب.
جدَّتي التي كنتُ أحتمي خلفَ ظهرِها منك عندما تغضبُ عليَّ دون سببٍ و تظلُّ طوالَ اليومِ هائجًا وأنتَ تردِّدُ يا يهوديُّ يا ولدَ اليهودية؛ فكيف أكونُ ابنَكَ وابنَ اليهودي في ذات الوقت! هل كانت أمي التي ماتتْ بعد ولادتي مباشرةً من اليهود؟
جدَّتي لا تعرفُ الجوابَ سوى أنها كانت تسمعُ تلك الكلمةَ على ألسنةِ الكثيرِ فربما كانت آخرَ ما وشمتْ به الطبيعةُ أرضَنا بعد عمليةِ إجلاءِ اليهودِ من قبل أن يخرجَ جدُّكِ من صلبِ أبيه بعشراتِ السنين.
كان آخر لعابٍ سبحَ به وجهي منك لونه أخضر، فعندما عدتَ من كهفكَ كنتَ تلوكُ عشبةً خضراءَ حتى صنعتَ بالونًا كبيرًا في جهةِ وجهكِ الأيمن، لم يكن يمرُّ المساءُ دون أن تدخلَ في حالةٍ من الهذيان.
خُيِّلَ لي هذه المرةُ أنكَ سوف تقول لي: كما يقول جارُنا لولده يا نصراني، ولكنكَ لم تفعل بل نمتَ و أنتَ تداعبُ خوفَكَ من الخيانةِ التي لم تنتصر عليها بل انتصرتْ عليك أمي عندما تركتَكَ وطلبتِ الطلاقَ، تلك الحقيقةُ التي أخفيتَها عني لسنوات.
لا زالتْ أرواحُنا تتغذَّى على الكلماتِ التي نثرتْها رياحُ التاريخِ على أسماعِ الناس فظلَّتْ تتناقلها الألسنُ كلما غضبت من وابلِ السماءِ الذي يهدمُ البيوتَ يسوقُ المواشي والأطفالَ إلى العالمِ الآخر.
صحوتُ على صوتِ جدتي تنادي عليَّ و تطلبُ مني أن أجمعَ خصلاتِ شعرها الشقراء من شقوق (المطهر) هي لم تكن تقول حمَّام أو دورةَ مياهٍ كانت تسمي المكانَ الذي تقضي حاجتها بداخلهِ (مطهر) لكونها تتطهرُ لصلاةٍ أومن جنابةٍ جافةٍ أجبرها عليها جدي أو من حالةِ النفاس.
جمعتُ شعر جدتي بداخل الكيس، ثم عدتُ أدراجي بعد عمليةِ تنقيبٍ دقيقةٍ داخلَ بيتنا المكون من سبعِ حجراتٍ صُنعتْ من الطينِ داخلَ سورِ الطين، يعتليه الكثيرُ من رؤوسِ الأشواكِ المسننةِ و في الوسطِ باحةٌ كبيرةٌ مرصوفةٌ بالحصى، تظللُه شجرةُ سدرٍ كبيرة، كنتُ ألعب تحتَها عندما يغيبُ أبي عن البيت.
حفرتُ حفرةً كبيرةً دفنتُ بداخلها الكيسَ الذي به شعرُ جدتي، يهودي يا ولد اليهودية!! شعرتُ أنني في ذلك الوقتِ انتصرتُ لنفسي وحررتُها من قيودِ عصرِ الظلماتِ بعدما سمعتُ صوتَ أحدِ طلابي ينادي عليَّ : أستاذ حَمَد واجبُ التاريخِ في أيِّ صفحة، ذكرتُ له رقمَ الصفحةِ وأرقامَ الأسئلة، خرجتُ بعد ذلك في جولةٍ سياحيةٍ لقلعةِ الأخدود.
** **
- مسعدة اليامي