الثقافية - مسعدة اليامي:
صداقات الرسائل بين صديقات المدرسة، لا تزال جارية، ولكنها الآن على ذمة التكنولوجيا. وهنا أتساءل: هل تصنع الظروف المختلفة، وبُعد المكان دوافع لكتابة الرسائل؟ ربما! لأن بُعد المسافة، حينئذ، جعلنا نكتب لبعضنا البعض، يومياتنا وقصصنا وحياتنا، وأحلامنا على الورق، ونتبادلها، فتنشأ صداقة عميقة بين فتاتين جمعتهم مدينة واحدة، وفرقتهم عادات الأهل، في تقنين الزيارات، وتقليل المكالمات، والحد من أي مبالغة عاطفية! ذلك ما سردتهُ للقراء الكاتبة المبدعة عهود عبدالكريم التي تحدثنا عن نتاجها الأول وكيف اندمجت في فضاء القراءة منذُ الصغر إلى أن أصبح لها روافدها الخاصة.
1ـ القراءة ما سر شغفك بالكتب، وكيف كانت البداية، ولماذا اخترت الكتب حتى تكون لكِ الأنيس في هذه الحياة؟
كيف لا نعشق القراءة ونُحب الكتب وهي زاد المعرفة، ومَعين المتعة، والخير كله في الكتب ما وافق الحُسن أخذناه، وما حاد عن العقل اجتنبناه؛ ولذا أحب الكتب، وأقضي في مكتبتي أغلب ساعات الليل والنهار، وأحب الاشتغال بما سأقرأ لاحقاً، وبما سأشتري، وكيف ألخِّص كتبي التي قرأتها، وماذا سأكتب عنها.
أما شغفي بالكتب فبدأ منذ طفولتي، فقد نشأت في أسرة قارئة؛ أبي قارئ فذٌ نهم حافظ، ومكتبته أغلى ما لديه، يتباهى بها؛ ويضعها في صدر مجلسه، وكتبه مقدسة نفيسة لديه. كانت مكتبة والدي مهيبة في عيني، ومحظور علينا اللعب بالكتب وتقليبها والعبث بها! أتذكر وقت تنظيف المكتبة -وهو عمل شبه شهري تطوعت من تلقاء نفسي للقيام به رغم صعوبته- أتذكر كيف كنت أقلب أمهات الكتب وذوات الحسن من الدواوين والسير! وكيف رتب أبي مكتبته على نحوٍ خاص لا يغيره ولا يسمح بتبديل كتابٍ مكان آخر!
كان في الرف العلوي من المكتبة كتب التفسير، الطبري وابن كثير وغيرهما. وفي الرف الثاني صحيح البخاري ومسلم ويليها، مصنفات السنة والأحاديث. وفي الرف الثالث سير أعلام النبلاء، وسير ومذكرات علماء وشخصيات، أعرف أسماء بعضهم وأجهل جُلهم. وفي الرف قبل الأخير كتاب الأغاني، والمستظرف، ودواوين بشار بن برد، والمتنبي، وأبو نواس والبحتري وغيرهم الكثير، وفي الأرفف الأخيرة مجموعات غير متجانسة من المنوعات، أذكر منها روايات إحسان عبدالقدوس، وكتب أنيس منصور.
هذه البداية، نشأت والكتب ملء سمعي وبصري، من رؤية وتنظيف مكتبة والدي، مروراً بالسطو عليها -غفر الله لي- لأقرأ فيها خلسة وخفية. ومما أذكره، أني كنت أحب كتاب «قرة العيون المبصرة بتلخيص كتاب التبصرة» كتاب يجمع قصص الأنبياء، وفيه تأملات ومواعظ؛ في بداية كل قصة من قصصه مقدمات أجاد فيها الكاتب وأبدع، كنت أحفظها؛ فأقرأها في الإذاعة المدرسية، وأتباهى بين زميلاتي، أنها مقتبسة من كتاب، في مكتبة والدي!
ثم تدرجت واشتريت أول كتاب من هدية نجاح في الصف الثاني ثانوي، من مكتبةٍ في سوق البلد بالطائف. لا أذكر عناوين الكتب، ولكنها تختلف عما في مكتبة والدي قطعا. وأما الانطلاقة الفعلية فكانت بدافع من أستاذةٍ أردنية -أحسن الله إليها- درستنا في الفصل الدراسي الأول من العام الجامعي 2003م كانت تنصحنا بشراء كتاب واحد من مكافأة الجامعة، ولو لم نعزم على قراءته في الحين؛ ليكون لدينا مكتبة تُنمي العقل وتقضي على أوقات الفراغ. وبالفعل فمنذ ذلك الحين، وأنا أعمل بنصيحتها، حتى اليوم، فكلما حصلت على شيء من المال، اشتريت ببعضه كتبا؛ زكاة مالي ونفسي وعقلي. وهكذا انطلقت في عالم القراءة.
وأما لماذا اخترت الكتب أنيساً؟! فلأن الكتب تعطي أكثر مما تأخذ، ولأن الكتب لا تغدر، ولا تغادر، ولا تتخلى عنا في منتصف الطريق، ولا تكدر علينا الحياة.. ولا تموت! ولذا كانت الكتب دواء قلبي، وبلسم فؤادي، وأنيسي وبهجتي.
2ـ القراءة، ثم القراءة، ثم القراءة.. ما شعارك لذلك العالم الذي تعيشين فيه اليوم؟ وهل تمكنتِ من خلال ما تكتبين عبر صفحاتك، أو ما يقدم عبر مساحتك أن تنثري عبير ذلك الشغف، وتأثري في الآخرين؟
قبل سنوات في أروقة المنتديات الأدبية كان توقيعي، جملة أرددها بين حينٍ وآخر: «القراءة تُطفئ غضب العلم». كنت أهتم بأقسام المكتبة في عدة منتديات أدبية، تعرفت من خلالها على عناوين كتب وأسماء مؤلفين، وعلى الجديد والقديم من الروايات والقصص والدواوين.
أما شعاري -إن كان ثمة شعار-: اقرأ ما يعجبك وتابع ما يقرأه الناس؛ الحكمة، المعرفة، والكتاب الجيد ضالة القارئ، وهو أحق به أنى وجده! ولكل شخص مذهبه الخاص في القراءة، وله حق أصيل في اختيار ما يُريد قراءته. من يحب الروايات فليعش على سرير متعتها، ومن تستهويه كتب العلماء الأجلاء فليهنأ بها. وأما من يعجبه المزج بين التراث والحديث، فهو في حديقة اختياراته. لست مع تقييد القراءة بتوجه معين، أو اتباع منهجية صارمة لا يحيد عنها القارئ، ولا يتصرف فيها! ولست مع الوصاية على القراء، أو الهش على اختياراتهم بعصا الانتقاد والتقليل من جدوى اختياراتهم!
هل أثرت على الآخرين؟ لعلي أيقظت رغبة القراءة لدى بعض الصديقات، وإن كان لي تأثير إيجابي على الآخرين أحب أن يتكلموا هم عنه. إن كُنت قدوة حسنة في القراءة لغيري فهذا فضلٌ من الله ونعمة.
3ـ ما خططك لعام 2023م للقراءة، وكم كتاب سيقرأ من قبل عاشقة القراءة عهود عبد الكريم؟
في بداية كل عام ميلادي أفتح مجلداً في مفكرة الجوال وأضع 12 مستنداً، بمعدل مستند، لكل شهر من شهور السنة. وفي داخل كل مستند جدول مقسم إلى: (عنوان الكتاب- المؤلف- صيغة الكتاب- وأقسام أخرى تختلف من فترة لفترة) وأبدأ في تدوين أسماء الكتب بعد الانتهاء من قراءتها «فوراً» ثم أغرد بذلك في تويتر، وأنشره في مواقع التواصل الأخرى، بنية شكر لله وتقديرًا لجهدي، ورفع مستوى أدائي. أقوم بهذا العمل الروتيني المحفز منذ سنوات، لذا تكونت لدي عادة القراءة والاستمرار فيها دون انقطاع، ولله الحمد، وفي نهاية كل شهر أفرح، حين أنتهي من قراءة مجموعة لا بأس بها، وألقي نظرة عامة على اختيارات الشهر؛ لأربط بينها وبين ميولي والاختيارات القادمة. ثم أحلل نوعية ما قرأت في نهاية كل شهر ونهاية كل عام. مع التأكيد، أن عادة تدوين عناوين الكتب وتلخيصها وتحليل محتواها، منحتني لياقة وسرعة في التهام الكتب وشرب أقداح فصولها!
أما الهدف السنوي لهذا العام 2023 فهو قراءة 100 كتاب، تزيد -بإذن الله- ولا تنقص، بمعدل 9 أو 8 كتب شهرياً. وإن انشغلت أو تأخرت عن الهدف قليلاً فلا ضير؛ أحب فكرة القمة العالية التي نسعى لها ونرتقي فإن وصلنا فذلك فضلٌ من الله، وإن داهمتنا الظروف فيكفينا شرف المحاولة. ولا أقول سوى أسأل الله البركة في الوقت والقوة في النظر والصبر على القراء لي ولجميع القراء والقارئات.
4ـ قراءة متنوعة ولكن أيها يسحرك أكثر الكتب العربية أم الكتب الغربية المترجمة وهل لتلك المتعة أسباب؟
الكتاب الجيد هو المفضل لدي، عربياً كان أم أجنبياً. أقرأ الأدب اللاتيني، الأفريقي، الأوروبي، الروسي، الأمريكي، الصيني، والعربي! أقرأ الأدب مجهول الهوية، والكتب ذات الجنسيات العالمية المتعددة! أقرأ ما راق لي من الكتب، دون تعسف أو تكلف، ولا يحول بيني وبينها، أصل نشأتها، وجودة ترجمتها، وأصالة مؤلفها، ودور نشرها! أقرأ حباً في الاطلاع على الثقافات الأخرى. قد يكون لدي توجه في قراءة الكتب الصادرة حديثاً، التي لا تزال تحمل حرارة المطابع، الطازجة من أفئدة مؤلفيها وأقلامهم. هذا هو حالي مع الكتب كحال غيري من القراء؛ الدهشة ضالتنا، والكتب الجميلة غايتنا.
5ـ كانت هناك موجة في كتابة المذكرات في مدراس البنات، فيكتبن الطالبات مع نهاية العام رسائل لبعضهن، وهناك من كن يطلبنا من المعلمات الكتابة لهن، أعتقد أن تلك الرياح وجدت هجوم ونظرة سلبية من قبل الإعلام والتعليم في ذلك الوقت، في رأيك لو كانت تلك الموجة وجهت التوجيه المناسب لوجدنا اليوم موهوبات في كتابة فن الرسائل أو الكتابة القائمة على التعبير بأسلوب جيد؟
دفتر الذكريات أو الأتوجراف كان حدثاً سنوياً مهماً خاصة لطالبات الصف السادس والثالث متوسط؛ نحرص، وبشدة، للحصول على تواقيع المعلمات، والصديقات المقربات. حينها كان يحق لكل واحدة منا التفاخر بنوعية، ولون وشكل دفترها ومن وقع لها فيه. أتذكر رصانة وجمال رسائل معلماتنا لنا، وكلماتهن الإيجابية الصادقة، المختارة بعناية لكل واحدةٍ منّا. كما أتذكر الأقلام الملونة، والملصقات، وكميات القلوب المبعثرة على الصفحات. وأتذكر كم وكم بكيت في الإجازة الصيفية حينما أعاود قراءة دفتر الذكريات. أحياناً تفرقنا المدراس ولا نرى زميلات المرحلة السابقة من جديد، وأحياناً نلتقي من جديد في المرحلة الدراسية الجديدة. كنا نكتب لبعضنا؛ تحسباً لأي فراق وربما للمتعة، لا أعلم حقيقة إن كن طالبات المدارس اليوم يحرصن على هذه العادة الجميلة أم لا، ولكنها من أجمل ذكرياتي.
كتابة الرسائل في دفاتر الذكريات (الأتوجراف) لم تكن بداية محبتي للرسائل، كنت أحب كتابة الرسائل لأمي وأبي، وفي مرة حصل خلاف عائلي فكتبت رسالة طويلة قوية العاطفة أعطيتها أبي وأنا في قمة خوفي على عائلتنا، فأثرت فيه تأثيراً رائعًا، أو هكذا أعتقد، عاد بعدها الوصل والوداد.
كما أتذكر إحدى صديقات المرحلة الثانوية، تعرفت عليها خلال حفل زواج، كانت تدرس في مدرسة أخرى بعيدة، وكنا نتراسل بالرسائل الورقية. أعطيها إحدى قريباتها، فتوصلها إليها، ثم تكتب لي الرد، وترسله مع ساعية البريد بيننا، وهكذا. وبعد سنة تقريباً أصبحنا نتبادل الرسائل في لقاءات مباشرة بيننا، بعد أن تعرفت عائلاتنا على بعضها البعض، وحين تزاور الأمهات، ننتهز الفرص لتبادل الرسائل. كتبت، حينها، بلا مبالغة، أكثر من مائة رسالة إليها، ولا تزال، إلى الآن، رسائلها التي جمعتها في دفتر، وضممت إليها أشعاراً وأغاني ورسومات وذكريات كانت بيننا.
صداقات الرسائل بين صديقات المدرسة، لا تزال جارية، ولكنها الآن على ذمة التكنولوجيا. وهنا أتساءل: هل تصنع الظروف المختلفة، وبُعد المكان دوافع لكتابة الرسائل؟ ربما! لأن بُعد المسافة، حينئذ، جعلنا نكتب لبعضنا البعض، يومياتنا وقصصنا وحياتنا، وأحلامنا على الورق، ونتبادلها، فتنشأ صداقة عميقة بين فتاتين جمعتهم مدينة واحدة، وفرقتهم عادات الأهل، في تقنين الزيارات، وتقليل المكالمات، والحد من أي مبالغة عاطفية!
6ـ كتابة الرسائل من الفنون التي لا تشكل حضوراً في المشهد الثقافي، فما الأسباب التي دفعت بك لدخول من خلال ذلك العالم الذي قد يكون منسياً؟
للأسف؛ كان لأدب الرسائل حضور قوي، بدأ من القرن الرابع الهجري، واستمر حتى وقت قريب، تبادل الكُتاب، والأمراء، والولاة، والشعراء، الرسائل فيما بينهم، وفي العصر الحديث وصلت لنا مراسلات كثيرة من مؤلفين، وروائيين، وعلماء، ومفكرين، جمعوا عصارات فكرهم فيها، وقالوا من خلالها خلجات عواطفهم، وكتبوا رؤاهم على أوراقها، تبادلوها مع من توسموا فيهم خير الرد، وحسن الفهم، وبلاغة الكتابة، وحفظ السر. ودون الإسهاب في الحديث، عن تاريخ أدب الرسائل، خشية أن يضيق بنا المجال والمقال هنا، أترك للقارئ العربي المهتم بأدب الرسائل البحث والقراءة في هذا الإرث الإنساني اللغوي الاجتماعي الثمين. وكلي رجاء أن يعود مجد أدب الرسائل، ويتكاتب الأدباء فيما بينهم.
بالمناسبة حاولت أكثر من مرة تبادل الرسائل مع مجهولين عبر البريد الإلكتروني ولم تنجح الفكرة! كتبت رسائل لم يستلمها أي صندوق بريد، وكتبت رسائل حُكم عليها بالحبس الأبدي في ملفٍ الكتروني في جهاز منسي! ثم تكدست هذه الرسائل، وكثرت، حتى ظهر بعضها في كتابي رسائل حسب الرغبة!
إن كتابة الرسالة شيء أقرب للمكاشفة والمصارحة؛ لن يكتب المنافق والكاذب والمخادع رسالة؛ لأن الصدق وقود كل الرسائل وحبرها وأساسها. الرسائل شكل أدبي يخضع لعاطفة المرسل، يختص به شخصاً عزيزاً بعينه، يبثه حبه أو سلواه، قلقه أو شكواه. أن تكتب رسالة، يعني كشف غطاء الروح، وإعلان أشجان القلب.
7ـ أحلام مستغانمي كتبت على كتابها **نسيان** يُحظر بيعُه للرجال. وأنت في الإهداء إلى كل النساء، فلماذا ذلك بالنسبة لك؟
لأن الرسائل كُتبت على لسان كل النساء، موجه إلى الرجال. الإهداء كان لأمي وأختي وصديقاتي، وكل نسوة الحي، والزميلات، والجميلات، اللاتي مررن بي، طيلة عُمري، وتركن أثراً وخيراً. لا أستطيع عد كل امرأة تركت عطراً في نفسي، لذا قلت في الإهداء: لكل النساء. وهو ليس بإقصاء للرجل؛ فمن أجله تشكلت أبجدية الرسائل وكل البرقيات.
8ـ رسائل حسب الرغبة ما الإيحاء الذي تريدين إيصاله من خلال ذلك العنوان؟
جاءت فكرة العنوان، بلا تكلف. وكان له عنوان آخر، طيلة فترة الكتابة والجمع والترتيب، والتهذيب، وهو: (رسائل إلى رجل مُختل عاطفياً) وهذا العنوان، عنوان رسالة عزيزة إلى قلبي، كتبتها على لسان صديقة مقربة تعرضت للعنف من زوجها، وكانت تحبه للأسف!
أعود لمسألة العنوان، شعرت بأن هذا العنوان، أعني القديم، ضيقٌ، ولا يتسع لبقية الرسائل! وطرأ لي عنوان الكتاب الذي اخترته مؤخراً. وأما «حسب الرغبة» فلأن الرسائل ملح العلاقات، وهو فيها كالملح، في الطعام، نضعه حسب الرغبة. الرسائل حاضرة على امتداد العلاقات، وصلاً وتواصلاً، حبًّا وبغضاً، دواماً وقطيعةً، فإن كان ثمة فراقٍ حتمي فما أجمله إن خُتم برسالة، وإن كان الحب حاضراً متوهجاً فما أجمل أن تجمعه رسالة. الغضب يلتهبُ في رسالة، الهجر يبرر برسالة، رغبة الوصال، وفكرة الانفصال، وحديث البحر، والحجر، والشجر، كلها مواضيع تحويها الرسائل، لن تفهم القصة خصوصية المُرسِل والمرسل إليه. ولا تقبل الرواية موقفاً كثيفاً، كالذي تحوية رسالة! أما الشعر فيصعُب استمطاره على البعض، لذا أرى أن التعبير عن الشعور أشهى وألذ في الرسائل وسطورها.
قلت عن العنوان، في الغلاف الخلفي للكتاب: بين يديكم مجموعة رسائل، كانت حبيسة الدفاتر، وهذا جزاء صدقها؛ أنشرها الآن، كغسيل بلله الدمع على حبال الورق، مجموعة الرسائل هذه، كبرتُ بها، ولم أتكبّر على بساطتها، وعنفوان مشاعرها، كتبتها حسب رغبة العواطف، وتحت وطأة الظروف، رسائل كُتبت تحت وطأة المشاعر، حسب رغبة الظروف، اقرأوها بسلام فرحين!
9ـ رسائل وجدانية ما بين حد المتعة والألم ، فهل كتابة الرسائل فن واقعية الكتاب نفسهُ وإلى أي مدى أنت منثورة في كتاباتك؟
في الكتاب أنا منثورة في كل سطر وكلمة وحرف وشعور. والحقيقة أن محتوى كتاب رسائل حسب الرغبة، لم يُكتب للنشر ابتداء! كما أنه لم يكتب دفعة واحدة، هو عبارة عن رسائل شخصية كُتبت على مدار العشر السنوات السابقة، حقيقية، وخيالا، ولم أفكر بجمعها في كتاب! كان، وما زال، وسوف تبقى كتابة الرواية هاجسي الأول والدائم، ولكن شاءت الأقدار أن تخرج الرسائل، وتصافح القراء؛ ليقرأوا عهود، وخلجات قلبها، ورسمات أسلوبها، وبعض فكرها ونبضها.
قررت لسببٍ أو لآخر، دخول عالم النشر، في صيف 2022م؛ جمعت الرسائل، التي طال نومها في ملفات الحاسوب، فاخترت اللائق منها والمناسب، وأرسلتها إلى القراء، كهدية يلفها غلاف! قسمت الكتاب إلى أربعة أقسام، اخترت لها العناوين التالية:
(الوصل الأول): رسائل لم يستلمها ساعي البريد. (الوصل الثاني): برقيات حب مستعجلة. (الوصل الثالث): بريد الغضب المؤجل. (الوصل الرابع): عقد قران الرسائل.
أعتقد أنه لمن الجميل، أن يتبادل الكُتاب الرسائل فيما بينهم، كأن يكتب شاعر رسالة لروائي، ويخط الصحفي رسالة لقاص. أو أن يتبادل القراء الرسائل مع الكُتاب والمؤلفين. ثم تكون هذه الرسائل كأرشيف خاص لحياتهم ورؤاهم إلى العالم من حولهم. قد تُجمع بين دفتي كتاب ونقرأها ونستمتع. أو تبقى كميراثٍ أدبي! ولعلي بهذه المناسبة أصرح بأنني أتبادل رسائل أدبية مع أديبٍ، يكتب بعذوبة لا مثيل لها، اتفقنا على المكاتبة، وبدأنا منذ شهورٍ قليلةٍ ماضية، نكتب الرسائل بحبر الصدق والعاطفة، ونتماهى بين الخيال والحقيقة، وقريباً -بإذن الله-، سترى هذه المراسلة أضواء النشر، كفكرة حُب مُتعمدة، أو عاطفة مُتخيلة، على لسان بطلين لم يجمعهما إلا ورقة وقلم!
10ـ طعْمتِ كِتابَاتكِ بالكثير من المقولات للكتاب، هل كان ذلك من جماليات فن الرسائل أم الشروط المتبعة في كتابة ذلك الفن؟
ليست شرطاً ولكني اخترت أن يكون توقيع الرسائل عوضاً عن تاريخ كتابة الرسالة والمدينة اقتباس يختصر شعور الرسالة، ويكثفها، كخاتمة أخيرة، وسطر لا يُنسى!
11ـ الحب عطر ورد في بدايته، ولكن عند الفراق يتحول إلى شبح مخيف، وبيوت قديمة مسكونة بجمر البعد والهجران تقتل الأحلام الصغيرة ما رأيك أنتِ؟
قد يتحول نور الحب إلى نيران تحرق أخضر الذكريات، ويابس الواقع! وقد تحرق كلمة واحدة صحائف حبٍ منشورة. في طيات كتاب رسائل حسب الرغبة، الشعور ونقيضه، فهناك رسائل تفيض بالحب الصارخ يقابلها رسائل كراهية قاتمة، هناك رسائل الأمان الأبيض، والخوف الأسود، الوصل الملون والبعد الباهت!
12ـ توحيدك للموضوع الرئيس في رسائلك القائمة على الوجدانيات العاطفية، هل كان ذلك ناتج عن دراسة أم أنك جمعتِ ما كان في الدرج حتى تتخلص الروح من العتمة، وتصافح النور؟
العاطفة، تجمع أواصر كل الرسائل، وهي رسائل لم يستلمها ساعي البريد، وهذه حقيقة! لم تصل معظم الرسائل إلى المرسل إليه! ولم يختمها ساعي بريد، ولم أضعها في ظرفها الذي كنت أرجوه. كتبتها ذات عاطفة، ونفيتها في مكان قصي، إلى أن أبصرت النور، بقناعة مني!
13ـ هل كان عندك معايير لاختيار العناوين الخاصة بكل رسالة، أم أن العنوان يتوافق مع هوية النص المكتوب؟
بعض العناوين كُتبت قبل الرسالة نفسها، وبعض الرسائل ظلت مجهولة العنوان، حتى تكرمتُ عليها به، وفق إملاءات محتواها!
أما كيف؟ ومتى؟ وآلية كتابة العناوين؟ فكلها خاضعةٌ للحظة تدفقٍ تسبقني أناملي إلى لوحة الكتابة، فأكتب بلا تردد ولا تقنين.
14. أرى أن كتابك سيكون متنفساً جميلاً لزهور ما بين العقد الثاني، والثالث، أما أنا فقد أحببت النص الذي يحمل عنوان «اخرج في موعد مع كتاب»
جميلات العقد الثاني والثالث، أراهن في الوصل الأخير: (عقد قران الرسائل) فهو أقرب إليهن، وفيه موضوعات الخطبة، والارتباط، والزواج، وما يسبقها، ويتبعها من عواطف ساخنة ملتهبة، ملونة بالأحلام الوردية، مطرزة بفستان زفافٍ، وباقة ورد بيضاء، وشموع وهدايا، وذكريات مشتركة بين الجميلات المخطوبات!
الرسائل كُتبت على لسان النساء، وكم سرني وصول ردود أفعال لقارئات يقلن جملاً لها نفس المعنى -دون اتفاقٍ منهن- مثل: قلتِ ما في نفسي، أو كنت أتمنى أن أرسل هذه الرسالة بهذا المعنى تحديداً لشخص معين. بل إن هناك قارئاً رجلاً قال لي: إحدى الرسائل كأنها على لساني لحبيبتي الأولى!
أما رسالة (أخرج في موعدٍ مع كتاب) فلها قصة جميلة. ففي إحدى النوادي الأدبية التي أتشرف بعضوية فيها، صور لنا أحد الأعضاء صورة في أحد المطاعم، لمجموعة كتب موضوعةٌ على الطاولة، وأخبرنا أن هذه عادته حينما يشتري كتباً جديدة، يذهب إلى مقهى أو مطعم، ويأكل على شرفها، وفي صحبتها، يتصفحها كأنه يتحاور معها. أعجبتني الفكرة فكتبت هذه الرسالة على ضوء هذه القصة الحقيقية.
15ـ قاب قوسين من الوصال لماذا تلك الخاتمة التي ختمت بها كتابك، وماذا يستفاد من ذلك، أم أنكِ تؤكدين أن الكُل قادر على كتابة رسالة؟
كثرت تأويلات صفحة: (قاب قوسين من الوصال). وقد رغبت من القراء والقارئات الكِرام والكريمات، كتابة مشاعرهم بعد الانتهاء من قراءة الكتاب. فقالت إحداهن: فهمت من هذه الصفحة أن هناك رسالة لم تكتب لكِ يا عهود، وأنتِ في انتظارها من الشخص المناسب. وقارئ آخر أخبرني أن هذه الصفحة (قاب قوسين من الوصال) بمثابة وثيقة صمت منك فليست كل المشاعر قابلة للكتابة والتصريح. فجاءت هذه الصفحة الفارغة من الكلام، أكثر تأثيراً من كل الكلام! وصلتني رسائل كُتبت بيد قراء الكتاب، ويالها من هدايا غالية على قلبي، لا تقدر بثمن، وهي في عيني أغلى ما أملك. أحب أن أجعل لقراء الكتاب فرصة التأويل، ولذا وضعت: (قاب قوسين من الوصال).
أما مسألة كتابة الرسائل فنحن جميعنا كُتّابٌ للرسائل، نكتب رسائل على شكل سطور قصيرة في وسائل التواصل، على هيئة ردود اعتذار، أو اعتزاز، أو محبة، أو اشتياق أو عتاب! إننا نعبر عن خلجاتنا بالرسائل التي غدت قصيرة، سريعة، إلكترونية، وتلتهمها التكنولوجيا في ثوانٍ، وقد تختفي فوراً، بعد قراءة المرسل لها، فيالهُ من زمنٍ باهت؛ يمحو ذاكرة المشاعر! الكل يكتب الرسائل، ولكنهم قلة، أولئك الذين يجعلون لها ذاكرة وقلب!
16ـ أيهما يأتي أولاً الرسائل أم الحب؟
الحب يأتي أولاً؛ يفرض وجوده على عقولنا، دوافعنا، ثم يفرض سلطته على أقلامنا، وأوراق رسائلنا! الذين يكتبون الرسائل، هم أهل الشعور، خاصة أهله؛ كُتّاب الرسائل يسكبون عواطفهم الصادقة لشخص واحد، لقلبٍ واحد، فيكشفون ساق كل حقيقةٍ، ويتجردون من أي مجاملة أو تدليس!
نكتب الرسائل؛ لأن الحب فاض من قلوبنا، وامتلأت به أرواحنا، وتمرد على الصمت والكتمان فنكتبه سطراً سطراً. ولذا؛ الحب يأتي قبل أي رسالة، وهو عطرها، ومضمونها، حتى وإن كانت رسالة فراق أو ابتعاد، أو عتبٍ أو ملام. رسائل الاعتذار تقول للمرسل إليه أحبك، رسائل الشوق تصرخ بالحب للمرسل إليه، رسائل الاطمئنان تبث الحب بين سطورها! وعليه: الحب يبقى ويدوم؛ بسبب الرسائل التي تكتب باسمه، وعلى شرفه!
17ـ تغيب مادة التعبير، حذف مادة التعبير، ما الرسالة التي تكتب في مثل ذلك الموقف لوزارة التعليم التي غيبت بذرة المواهب الأدبية؟
سؤال جميل! أجيب عنه بقصة شخصية. كنت في الصف الرابع الابتدائي، في حصة التعبير بالتحديد. أتذكر تلك الحصة جيدًا، دخلت المعلمة وبعد انتهاء الدرس وزعت أوراق الاختبار الشهري لمادة التعبير، وكانت قد صوبتها وأخبرتنا بأن طالبة واحدة فقط حصلت على الدرجة الكاملة 7 من 7.
قالت تصف إجابة الطالبة: أسلوبها جميل، خطها واضح، إملاؤها صحيح، واختارت تعبيراتٍ وألفاظاً مميزة، الطالبة هي: عهود القرشي وطلبت من الطالبات التصفيق لي، ثم نادتني؛ لتسلمني ورقة إجابتي وطلبت مني قراءة نص التعبير أمام الطالبات. كان شعوراً لا ينسى، أذكر حلاوته حتى الآن، وأذكر فرحتي بأن كلمات على ورق سبب في التميز! تعهدتني تلك المعلمة بالمتابعة، وتصويب الأخطاء، ورفع مستوى الكتابة، حتى حينما كنا نذهب للمكتبة المدرسية في حصص الفراغ تختار لي قصصاً جميلة. من حصة التعبير، بدأت رحلتي إلى حب الكتابة.