إن من ماتع الحديث، بيان ما حفل به الأدب العربي والإسلامي في كافة الميادين، والأطوار التي مر بها عبر حقب تاريخية، وتتبع ما أضافه الإسلام بقيم وأدبيات على مسيرة الأدب العربي، وكيف كان رائدا برجالاته، ومدوناته، ومجالسه، ومنصاته.
ومن مهام المختصين والمهتمين بهذا التنوع والتمرحل للأدب العربي في تكوينه، ومسيرته، رصد المخرجات والمؤثرات التي كان لها كبير الأثر على بناء الفكر وإنضاجه، ودوره في الرقي في المجتمعات؛ لذلك اعتنى بهذا النخب في المجتمعات من الحكام والعلماء والأدباء.
وقد أظهرت جملة من الدراسات ما كانت تحفل بها مجالس الأدباء وصالوناته.
وقد أخذت تلك المجالس مساحة لا بأس به في الكتابات حول تاريخ الأدب العربي، بل برزت جملة من التصانيف والمؤلفات الواصفة والكاشفة لطبيعة تلك المجالس وما يقع فيها من الحوارات والفوائد والأوابد.
وتعود فكرة المجالس الأدبية عند العرب، في جوهرها، عموما، إلى تلك الروح الأدبية المرهفة، والنفسية المحتفية بالأدب الذي تجد فيه الروعة والمتعة فتهبه التفاعل، وهو التعامل الذي وضعه الإسلام في موضع التقدير، وأسنده، وباركه، فتحدث الصحابي جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- عن أكثر من 100 جلسة شهدها مع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة- رضوان الله عليهم - ، حيث قال «فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية».
ومن المدونات الراصدة لتلك المجالس الموسوعات التي بسطت اهتمامها حول المجالس الأدبية واللغوية لتدوين ما دار فيها ورصده بدقة وشمول.
فظهرت تآليفات منها: «مجالس أبي مسلم، مجالس ثعلب، الأغاني للأصفهاني، نزهة الجليس ومنية الأديب والأنيس، أنس الفريد، مجالس العلماء»، فضلا عن «العمدة وخزانة الأدب، ومحاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني» وغيرها من الكتب.
وزخرت هذه الكتب بأخبار المجالس، وسلطت عليها الضوء تتبعا لتوغل الأدب في الحياة العربية، ولما تمثّله المجالس من مكانة وأهمية وارتباط بالجميع، وقد أورد ابن هشام في المغازي أنه «لم يكن من قريش فخذ إلا ولهم ناد معلوم في المسجد الحرام يجلسونه» وذلك إلى جانب المجالس الأخرى التي يعقدونها في بيوتهم وما حولها.
ويعبّر عن وجودها وحضورها ما ورد في قول زهير في أشعاره:
«وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم
مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل»
واصفاً قيمتها.
كما نطالع من ناحية أخرى مثل هذا التوثيق الشعري للمجالس في قول المهلهل:
«نُبئت أن النار بعدكم أوقدت
واستبّ بعدك يا كُلَيب المجلس»
ومن النوافذ على هذه المجالس أخبار أعيان العرب وساداتهم اللابثين في مقارِّهم، حين يفِد إليهم الناس ومن ذلك تصوير الأحنف لمجلس قيس بن عاصم:
«رأيتُه قاعداً بفناء داره محتبياً، بحمائل سيفه، يُحدِّثُ قومه».
وبما أنه شخصية أدبية مصنف في شعرائهم فلا يمكن إلا أن تتصور رشْح القصيد في تلك الأنحاء.
ومن يتجول في كتب تاريخ الأدب كأنه يتجول بين تلك المجالس وسيفتح أمامه الباب ليعاين تفاصيلها وما يدور فيها فيتلهّى بمثل ما ورد من أنّ: «الزبرقان، والمخبل السعدي، وعبدة بن الطيب، وعمرو بن الأهتم تذاكروا في الشعر والشعراء وادعى كل منهم أسبقيته في الشعر وتحاكموا، فقال الحكم:» أما عمرو فشعره برود يمانية تطوى وتنشر، وأما الزبرقان: فكأنه رجل أتى جزورا قد نحرت فأخذ من أطايبها وخلطه بغيره، وأما المخبل: فشعره شهب من الله يلقيها على من يشاء من عباده، وأما عبدة: فشعره كمزادة أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء».
والحديث يطول عن هذا المشهد والشاهد الأدبي على أدب العرب والمسلمين.
ومن التواصي الأدبي بين المهتمين والانعكاسات التي أثرت به تلك المجالس حضور هذا الشكل في هذا العصر باسم: المجالس والدواوين والصالونات الأدبية، التي اعتنى بتتبعها المهتمون بحضورها، والمشاركة فيها، ورصد أخبارها، وهي كثيرة وأحسب أن منها ما ظهر علمه وبان أثره : مجلس أخي الأديب المثقف الدكتور / محمد بن عبد الله المشوح - وفقه الله- في مجلسه الثلوثي في داره العامرة في مدينة الرياض.
مجلس اتسم بالنوعية في الموضوعات والمشاركين والحاضرين، مجلس يرتشف فيه أدب الدنيا والدين، من خلال أطروحات عميقة، تطرح من أهلها في محلها، وهو مجلس يستضيف رجالات الدولة، والعلم، والفكر، والأدب، وهو متطور في عطاءاته، وهذا يعود إلى طبيعة صاحبه وقيمه الدكتور محمد - وفقه الله -، فهو صاحب جسور اجتماعية مع كافة الشخصيات، وقد عرفته طيب المجلس، وماتع الحديث، تلمس من حديثه وحواراته مكنزاً من المعرفة والحكمة، ونبل التواصل مع ما من شأنه الارتقاء بشخصه ومن حوله، ويعزز ذلك عنايته الفائقة بالقامة العلمية العلامة معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، - رحمه الله - ، وهذه العناية بمعالي الشيخ من قبل هذا الصهر البار، وما أنتجه من مدونات وبحوث ودراسات، والتي نفخ فيها روح الانتشار والاشتهار بعد توفيق الله الدكتور محمد المشوح، و مما عزز الامتداد المعرفي كذلك بين الدكتور محمد والمفكرين والأدباء والعلماء مكتبته الثلوثية التي تعتبر عرّابة النشر التاريخي والتوثيقي للسير والمسيرة للرجال والدول، والأحداث في الجزيرة العربية وغيرها، وهذا التجمع المركزي في اهتمامات الدكتور محمد المشوح جعلته يدا دافعة لعجلة المعرفة وتعزيز الثقافة في بلادنا الغالية حرسها الله، ومن هنا اقترح على فضيلة الدكتور محمد، أن ينبري لنشر مدونات تعنى بمضامين ما يطرح في مجلسه وثلوثيته من حوارات وفوائد وفرائد، وتكون في سلسلة توثيقية تتداولها أجيال المهتمين والمختصين.
وفقنا الله وإياه لكل خير وجعلنا وإياه من عباد الله المباركين.
** **
- د.صالح بن عبدالله بن حميد