د.عبدالله البريدي
«حل واجبات، حل اختبارات، أبحاث التخرج، عروض، تقارير، أبحاث محكَّمة، أبحاث ترقية، أبحاث ماجستير ودكتوراه».. هذه دعايات تملأ الشابكة (الإنترنت) وشبكات التواصل الاجتماعي، والطلبة يعرفونها جيداً، وكذلك الأساتذة والجامعات ووزارات التعليم والبحث العلمي. بعض الدول قامتْ ببعض الواجب من أجل المنع أو التقليل من خطورة هذه الأعمال على: العملية التعليمية ومهاراتها ونواتجها، والعملية البحثية ومخرجاتها، وبعض الدول بل أكثرها لا تحرِّك ساكناً، ولا تتفاعل البتة مع هذه المستجدات المفصلية، مما يعني أن طلبة -بنسبة ما- لا يقومون بالأنشطة المطلوبة كما يجب، على أن طلبة لا يتوجهون بطلب المساعدة من «أكشاك حل الواجب» لكونهم لا يعرفون كيف يتوصلون إليها، أو لكونها عملية مكلفة (خاصة أكشاك الهندسة والعلوم والسنة التحضيرية!)، ولكن ماذا عسانا نقول بعد ظهور تقنية تشات جي بي تي (سبقها نسخ عدة في أجيال متعاقبة)؟ إذ هي متوفرة للجميع، وبالمجان أيضاً، فبضغطة زر يحصل الطالبُ أو الأستاذُ على ما يحتاجه، مع دقة مدهشة في كثير من الأجوبة والمعلومات و»الأبحاث» التي تقدمها، وهي تتطور على مدار اللحظة؛ عبر إدخال مليارات المحددات/ المغذيات للتقنية التوليدية (Parameters)، التي تسعى جاهدة لمحاكاة تفكير الإنسان والتفوق عليه. وهنا أقول بكل شفافية: هل يكون مقبولاً حينما لا يُظهر القلقَ من هذه التقنية إلا أصحابُ «أكشاك حل الواجب» و»أكشاك إعداد الأبحاث»؟ هل هذا فعلاً مقبولٌ أو منتظرٌ من وزارات التعليم والبحث العلمي في عالمنا العربي والمؤسسات الأخرى ذات الصلة؟!
لقد بات من الواضح أن ثورة الذكاء الاصطناعي تنحو في بعض مساعيها إلى تغيير بِنية الإنسان في مسائل جوهرية، ومنها البعد العقلي أو الذهني Cognitive. لقد أحدث كتاب حضارة السمكة الحمراء (للفرنسي القدير برونو باتينو، من ترجمة المكين الدكتور مصطفى حجازي، 2021) دويًا هائلاً في فرنسا وأوربا وفي العالَم اليقظ أيضًا، حيث يشبِّه المؤلف ذاكرة الإنسان المعاصر بذاكرة السمكة الحمراء المحشورة في الحوض الصغير، حيث لا تدوم ذاكرتها أكثر من 8 ثوانٍ، واستطاعت حواسيب قوقل العملاقة تقدير مدى انتباه «جيل الألفية»، وهم أولئك الذين ولدوا والشاشة الملساء حولهم، والذين يتمحورون حول الزمان- المكاني لشاشاتهم، حيث قُدِّر انتباه هذا الجيل بنحو 9 ثوانٍ، وبعد هذه الثواني «السمكية»، ينفصل ذهنُه عن موضوع تركيزه، باحثاً عن مُثير جديد (معلومة، خبر، مشهد، إعجاب) وذلك بدءاً من الثانية العاشرة؛ بفارق ثانية واحدة فقط عن هذه السمكة التعيسة!
في الحقيقة، هذا التشبيه موجعٌ للغاية، حيث يؤكد خطورة توظيف الذكاء الاصطناعي في تحقيق ما بات يُسمى باقتصاد الانتباه، إذ يستهدف عمالقةُ الشابكة إبقاء الإنسان مربوطًا بالإنترنت ما أمكن، حيث يحققون المليارات من مجرد بذل الإنسان انتباهه في شوارع شبكات التواصل الاجتماعي وردهات المتاجر الإلكترونية، مشيرًا إلى أن يد الشبكة حلَّتْ محل يد السوق الخفية (باتينو يقصد يد آدم سميث في الليبرالية/ الاقتصاد الكلاسيكي).
وقد أعلنت الشركةُ المنتجةُ لتقنية جي بي تي أنها بصدد التعاون والتحالف مع شركة ميكروسوفت، مما يعني أن هذه التقنية من الذكاء الاصطناعي سيجري دمجها في الحواسيب الشخصية والبرامج المعروفة، حيث ستكون متاحة مثل القواميس المدمجة في برنامج الوورد مثلاً، وهذا يعني اكتساحاً تاماً لهذه التقنية، وتعطيلاً قد يكون تاماً هو الآخر لما يُسمى بالعقل أو التفكير الإنساني! كيف يمكن لأستاذ أن يقيِّم إذا كان هذا الحل أو تلك الإجابة هي من صنع جي بي تي أو من إنتاج عقل تلميذه؟ هذا إذا كان هذا الأستاذ أصلاً يهتم أو يكترث لهذه المسألة!
وكما يعلم بعضكم، فعملية إدماج الذكاء الاصطناعي لا تتم بين منتجات الشركات التقنية ذاتها فقط (كالإدماج السابق مع منتجات ميكروسوفت)، حيث يتجاوز ذلك إلى الإدماج مع الإنسان نفسه في عقله وجسده عبر زرع الشرائح الرقمية، بحجج قد يبدو بعضها مقبولاً أو مفيداً في إطار جزئي (أشدد على إطار جزئي). ومن الخلفيات المهمة ذات البعد الفلسفي المعقد في توظيف الذكاء الاصطناعي بعد إدماجه في جسد الإنسان وعقله، فكرة «ما بعد الإنسانية» أو «ما فوق الإنسانية» Posthumanism أو Transhumanism (أو الإنسان الفائق أو أي تعبيرات مشابهة)، وهي ذات خلفية تطورية داروينية صرفة.. حيث يؤمنون بأن الإنسان الراهن (الذي هو نحن الآن) لا يستحق البقاء، لأنه ما زال يمرض ويشيخ، بل يموت أيضاً!
وفي مثل هذه السياقات المعقدة، إن من جهة التربح المادي أو من جهة التغيير لبِنية الإنسان وجوهره لأهداف متعددة صريحة أو ضمنية، تُطرح تطبيقاتٌ عديدةٌ للذكاء الاصطناعي وتعلُّم الآلة بأجيالها الثورية المتعاقبة، ومن بينها: تشات جي بي تي، إذ هي مجرد تطبيق ضمن تطبيقات، يتوالى صدورها تباعًا، بما لا نطيق مجرد متابعته، وسيكون لها آثارٌ مدمرةٌ جدًا على بِنية العقل الإنساني والتفكير والاستنتاج والذاكرة وكل العمليات الذهنية.. فضلًا عن الجوانب الإنسانية الأخرى التي لا يمكن الحديث عنها في نص صغير كهذا، مما ينذر بمخاطر تتهدد المنظومة التعليمية في العالَم وأسس التفكير والعمل الإنتاج أيضاً. ولمثل هذه السلبيات الكبرى، اتخذت جامعة ستانفورد (وهي التي احتضنت ولادة الرقمي والمنصات والمجتمع الشبكي) قرارًا بعدم إدخال المحمول في المحاضرات، وهي بصدد فرض غياب الحواسيب بشكل متصاعد داخل حرمها الجامعي!
في كتابه القيم، يشير باتينو إلى مسألة شديدة الخطورة، حيث يقول بعد حديث عن تعلُّم الآلة والخوارزميات التي تتعلم من تلقاء ذاتها: «إن أنصار ما فوق الإنسانية يعلنونها قائلين: سوف يأتي وقتٌ تصبح فيه الحواسيبُ فائقةُ القوة والموصولةُ فيما بينها بشبكة متفوقةً على الإنسانية، وتتولى بالتالي تنظيم حضارة جديدة، قائمة على ذكاء الآلات. يطلق كرزفايل على هذه اللحظة تسمية «الفرادة»، ويعلن عن قدومها في العام 2045» (ص 179). راي كرزفايل هذا هو مرشدٌ «روحيٌ» في كنيسة الوحدة الكونية (=البعد الروحي!)، وهو في العقد السابع من عمره، وقد ابتكر حاسوباً وهو في الثانية عشرة من عمره، ويقود جامعة الفرادة Singularity University في قوقل، حيث يستخدمها مركزاً لأحلامه في خلق عالَمٍ جديد، عبر «أبحاث ما فوق الإنسانية»، التي تربط حقول: الذكاء الاصطناعي بالنانو وعلم الأحياء والعلوم العصبية والذهنية، والمعروفة باختصار: NBIC.
جدير بالذكر أن برونو باتينو في كتابه السابق لا يكتفي بالجانب التشريحي التشخيصي، بل يطرح العديد من الخيارات المقترحة في المواجهة والعلاج، وهي جديرة بالدراسة والتأمل، وهي خليطٌ من معالجات: فكرية ونفسية وتقنية وقانونية؛ في قوالب وقائية وعلاجية.
وأخيراً، ليتني كنت أستطيع إهداء أصحاب المعالي وزراء التعليم والبحث العلمي (ومعاونيهم) في عالمنا العربي نسخة من هذا الكتاب القيَّم (هنالك كتب أخرى جيدة، وهذا أحدها فقط)، ليكون منصةً لنقاشات معمَّقة ممتدة تراكمية ذات نفس طويل، حول هذه الظاهرة «العنيدة»، التي جعلتْ تخلق لنا تهديدات وجودية، تَمسُّ عقلَ الإنسان وذاكرته ومعرفته، فضلاً عن روحه ووجدانه، فهل نُولي هذه القضية الخطيرة -بكل أبعادها- ما تستحق قبل فوات الأوان؟!
** **
- كاتب وأكاديمي سعودي (أستاذ غير متفرع بجامعة القصيم).