أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
إنَّ هذا المقال هو غيض من فيض عطاءات الأستاذ الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري -رحمه الله- وكلي يقين أنني لن أوفيه حقه من عبارات الشكر والتقدير ودلائل الوفاء، فالدكتور الأنصاري هو العالم العلامة والمفكر الأريب الأديب الذي له في أفئدة الناس حباً وتقديراً لا تستوفيه أحرف وسطور. فقد كان -رحمه الله- قدوة يعلوها رونق العلماء وتواضعهم وحبهم لتلاميذهم غرس فيهم حب دينهم ووطنهم وزرع فيهم الانتماء ليجعل منهم ثماراً تتدلى يانعة ناضجة أمام ناظريه لا ليجنيها هو لنفسه فيسد به رمقاً ولكن ليرعاها وهي تزداد نضجاً وتألقاً ويزداد هو حباً لها وتغنياً بها.
لقد كان لقائي الأول بالأستاذ الدكتور عبدالرحمن الأنصاري -طيب الله ثراه- تحديدًا في إحدى قاعات كلية الآداب الرئيسية بجامعة الملك سعود عندما كنت في خريف 1968م طالباً مستجداً أبدأ مشواري الجامعي. وقد كان ذلك حقاً لقاءً رائعاً وقف فيه الدكتور الأنصاري أمامنا آنذاك نحن تلامذته عملاقاً في علمه وأدبه وشخصيته الأبوية الجذابة الحانية المتواضعة الودودة فشعرت حينئذ بقربي منه وتعلقت نفسي به وارتبطت به ارتباطاً لم تنفك عراه أبداً. وقد أخذ ذلك الارتباط يتنامى عبر الزمان، فأصبحت بعد سنوات عدة وكيلاً للشئون الأكاديمية والدراسات العليا أثناء فترة عمادته الثانية لكلية الآداب ونائباً له في عمادة الكلية ومجلس إدارتها مرات عدة بل ونائباً عنه مرات عديدة في مجلس الجامعة الموقر وبعض لجانه الدائمة.
ولا شك أن فترة عملي معه قد بلورت علاقتي بالدكتور الأنصاري وزادت من أواصر صلتي به وعززت حبي وتقديري له يوماً بعد يوم، إذ وجدته كما عهدته مخلصاً نزيهاً متفانياً في عمله محباً لزملائه وكليته بل وللناس أجمعين.
فقد كان الدكتور الأنصاري كما يشهد له الجميع يواصل ليله بنهاره في خدمة الكلية مرسخاً فيها أسمى التقاليد الجامعية وأنبلها، واقترنت الكلية باسمه واقترن اسمه بها وستظل -بمشيئة الله تعالى- كذلك أبد الآبدين. وكانت فترة الدكتور الأنصاري لعمادة الكلية آنذاك فترة ذهبية مثمرة عزز فيها فرص اللقاءات العلمية على مستوى الأقسام والكلية ونشَّط البحث العلمي وكثَّف من لقاءاته بزملائه يستشيرهم ويستنير بآرائهم ويوجد لهم أجواء خصبة للإنتاج العلمي والعطاء الأكاديمي والإداري الناضجين. كما نشّط الدكتور الأنصاري -رحمه الله- في تلك الفترة حلقات البحث العلمي والندوات المتخصصة ورعاها وبخاصة ندوة المنهجية في العلوم الإنسانية التي حظيت بالأصيل والمتميز من البحوث النظرية والتطبيقية في مجال المناهج العلمية وأساليبها وذاع صيت الندوة واقترن اسمها به. كما طوَّر الدكتور الأنصاري في فترة عمادته للكلية هيكليات لجان العمل الأكاديمي والإداري وأنظمتها المختلفة ومنها لجان تعيين المعيدين ولجان الدراسات العليا ولجان الخطط الدراسية. كما شكَّل -رحمه الله- عدداً من اللجان المهمة الأخرى ومنها لجنة فحص خطط الرسائل العلمية للماجستير والدكتوراه التي انبثق عنها هيكل منهجي لكتابة الرسائل العلمية تبنته كلية الدراسات العليا بجامعة الملك سعود فيما بعد وعممته على مستوى الجامعة بعد أن لاحظت تحسن مستوى خطط الرسائل العلمية بالكلية. كما استحدث -طيب الله ثراه- في فترته تلك لجنة لفحص طلبات تعيين أعضاء هيئة التدريس والمحاضرين بعد أن استحدث منصباً في الكلية يُعدّ من أهم مناصبها الحيوية ألا وهو منصب وكيل الكلية للشئون الأكاديمية الذي توليت مهمته لسنوات عدة مسجلاً بذلك -رحمه الله- قصب السبق في إنشائه.
وعمل سعادته أبان عمادته لكلية الآداب على إحياء وكالات الأقسام مطوراً بذلك إستراتيجيات العمل الإداري والأكاديمي في الكلية. كما شهدت فترة عمادته تطويراً للمناهج والخطط الدراسية، فقد تمكن سعادته بعد أن أبلى بلاءً حسناً من إقرار سنة الإعداد العام التي تعطي الطالب المستجد بكلية الآداب طيفاً علمياً وثقافياً شاملاً عن تخصصات الكلية قبل أن يدلج الطالب في واحد من تلك التخصصات.
وكان للدكتور الأنصاري دور بارز في صياغة النظام الدراسي الجديد بالجامعة الذي يعكس اهتمامه الشخصي واهتمام كلية الآداب التي ذاع صيتها في الأوساط الجامعية أبان عمادته -رحمه الله. ولعل من أهم أعماله الخالدة تحديد علاقة كلية الآداب بكلية التربية التي أكسبها- بفضل الله ثم بفضل جهده ومثابرته- نمطاً جديداً يضمن للكليتين بالجامعة حقهما الأكاديمي ويكفل للطالب فيهما مساراً علمياً عادلاً وتخصصياً مثرياً يتناسب مع معايير الدراسات الأكاديمية المعاصرة ومتطلبات سوق العمل. وكان الدكتور الأنصاري -رحمه الله- يعقد أسبوعياً مجلس كلية الآداب الذي كان بلا مبالغة محفلاً علمياً راقياً توجته حكمة الأنصاري وبصيرته النافذة الناقدة البناءة التي كانت كعادته لا تقبل تسطيح النقاش ولا أفقية الحوار، إذ كان سعادته في رئاسته لتلك المجالس يغوص بأعضاء مجلسه عبر الساعات الطوال التي تزيد كل جلسة منها في الغالب عن ست ساعات في أعماق الموضوعات المطروحة يثريها حواراً ونقاشاً قبل أن يتخذ المجلس قراراً بشأن أي منها. وكانت قرارات الدكتور الأنصاري شجاعة وجريئة وموضوعية عادلة لا يهمه عند اتخاذها بعد الدراسة والتمحيص لومة لائم.
ولعل من أهم سمات فترة عمادة الدكتور الأنصاري للكلية آنذاك نجاحه الباهر في المواءمة بين الشباب والشيوخ، فاستفادت الكلية من حرارة دماء الشباب وبصيرة الشيوخ وحكمتهم، فامتزج الحماس بالحكمة ولبست الكلية نتيجة لذلك ثوبها القشيب وازدانت بتيجانها البهية تتهادى أمام ناظريه -رحمه الله- على سمفونية أرادها الدكتور الأنصاري أن تكون أنغام سلام ورمز تألق يتذوقه القاصي والداني.
إن نجاح الدكتور الأنصاري في حياته الأكاديمية والإدارية إنما يعود إلى دماثة أخلاقه، وإخلاصه في عمله، ونزاهته، وحسن معاملته للجميع، واستنارة عقله، واستفاضة علمه، وجزالة حكمته، ونباهة بصيرته، وقوة صبره، وجمال لباقته، وسحر شخصيته، وسعة صدره، وكياسة مزاجه، وطول باله، وهدوء طبعه ولطفه، واستمتاعه بجلسائه مهما صغروا أو كبروا، وحلو حديثه، وغزارة ثقافته، وعلمه وأدبه. كما يعود كل ذلك أيضاً إلى تعوده -رحمه الله- على حب الناس الذين بادلوه الحب وتربى على ذلك فهو لا ينسى أن يبارك لك فرحاً أو يواسي لك حزناً بل ويذهب إلى أبعد من ذلك مشاطراً أبناء تلامذته أفراحهم فرحًا بنجاحهم ومقدماً لهم ما يحفزهم على مواصلة المسير كما حفز أباءهم ودفع بهم إلى المجد والرقي من قبل.
والواقع أن فكر الدكتور الأنصاري وعلمه يعدان جسراً متجدداً بين الحاضر والماضي ودرباً إلى المستقبل تنيره شموس العطاء وألق الضياء. كما أن شخصيته الفذة وقوام تربيته الأسرية المرموقة الممزوجة بعلمه وفكره الرصينين ووطنيته القوية المعهودة جسرت اللقاء بين الدكتور الأنصاري وأجيال الثقافة والتراث والعلوم من الفئات كافة تجسيراً يسانده جودة طرحه في موطن الأداء، وقوة التقائه في محافل اللقاء مما جعله قدوة للدارسين ورواد الفكر والقلم كاسباً بذلك زخماً من المعجبين به والمحبين له. فليس مستغرباً أن يكون الدكتور الأنصاري بمثل هذا الألق يحبه الناس ويحبونه فشخصيته الجاذبة الجذابة الساحرة الوقورة قد هُيئت منذ نعومة أظفارها لتكون كذلك، فهو الابن البار لعالم فاضل من علماء المدينة المنورة هو الشيخ الجليل الطيب الأنصاري -رحمه الله- الذي شهد المسجد النبوي حلقات دروسه المستنيرة وحظيت المدينة بتلامذته الذين أضحوا شيوخاً فيما بعد يعكسون أثر الشيخ الجليل وآثاره خلقاً وعلماً ودراية. ورغم قصر الفترة التي عاشها الأنصاري مع أبيه -رحمهما الله- إلا أنه قد تربى في كنف ذلك العالم الفذ الجليل وتحت سقف بيته الكريم فورث عنه حب الخير وحب العطاء والعلم والتسامح والعفو عند المقدرة والإيثار والصبر والجلد على التحصيل العلمي والقدرة على التحليل العلمي العميق المنظومي المستنير. فالدكتور الأنصاري -رحمه الله- بما حباه الله من بيئة تربوية ناضجة ومحفل علمي مشهود وصفات سوية يسحرك بألقه وتجذبك ابتسامته الإنسانية العريضة الجميلة الساحرة ويأسرك تواضعه ويثريك فكره. فهو بلا شك ذلك النوع من الرجال الأفذاذ الذين لا تمل مجالستهم أبداً، إذ كنت أشعر عندما ألقاه أنني أسير أنسه وحلو طبعه ودماثة خلقه فأغادره بعد عذب اللقاء به وأنا في غاية الشوق للقائه وأمل الالتقاء به في أقرب فرصة كي أزيح عن كاهلي وحشة فراق شيخي وألم الابتعاد عن معلمي ومرشدي.
إن شيخي الدكتور الأنصاري قد صنع نفسه بعناية وتقدير من الله عز وجل ثم بجهده وعرقه وصبره وجلده وحبه للعلم، فحقق طيب الله ثراه، رغم أنه عاش يتيماً منذ نعومة أظفاره، حقق ذاته بالعلم وحقق ذات الوطن فيه عالماً مفكراً متميزاً على المستويين المحلي والعلمي في حقل من أرقى حقول العلوم الإنسانية وهو علم الآثار والمتاحف. وقد حط الدكتور الأنصاري في أحضان هذا العلم رحاله بعد رحلة طويلة متخصصاً في اللغة العربية وآدابها ثم في التاريخ. وفي هذه المحطة العلمية الأخيرة تبلورت ذاته الأنصارية أي في قسم الآثار والمتاحف الذي يعود الفضل إليه بعد الله في إنشائه. فمن خلال تدريس الدكتور الأنصاري في هذا القسم وأبحاثه الرائدة الأصيلة أشرقت شمس «قرية الفاو» التي نقب فيها باحثاً عن التاريخ المدفون تحت رمال الصحراء. وقد كان من نتاج هذا التنقيب مدرسة آثارية عزز الدكتور الأنصاري وجودها الوطني وجذر لها أسسها النظرية والتطبيقية على حد سواء. وقد جاءت إسهاماته العلمية دافقة ومتميزة وبناءة خدمت تاريخ الجزيرة العربية بعامة وآثار المملكة العربية السعودية بخاصة. ولا شك أن أبحاث الدكتور الأنصاري الآثارية ومشاركاته العلمية في المحافل العلمية المحلية والإقليمية والدولية تشهد على عمق وغزارة إنتاجه العلمي الذي بلوره -طيب الله ثراه- بعد جهد أبلى فيه بلاء حسناً مسجلاً بذلك قصب سبق نقشته الأجيال عرفاناً به في الحجر ورسمته تخليداً له وسماً في الأثر بماء من ذهب. إن هذا الجهد هو الذي جعل الدكتور الأنصاري -بعد عون الله له- علماً في حقله يشار إليه بالبنان ومرجعاً في تاريخ الجزيرة العربية وآثارها بعامة والمملكة العربية السعودية بخاصة. ولا شك أن بحوث الدكتور الأنصاري قد أثرت وأغنت الإطار المرجعي الآثاري والتاريخي والحضاري وسدت ما كان فيه من نقص ملحوظ على مستوى النظرية والتطبيق والموضع والموقع الجغرافيين. ولن تنسى مدينة القدس تنقيباته الأثرية وكذلك بعض دول العالم الأخرى التي استفادت من علمه ومرجعيته الحضارية الآثارية الأصيلة الرائدة أيما استفادة.
وبعد رحلة الدكتور الأنصاري الطويلة في جامعة الملك سعود، شاء الله أن يغادر الجامعة ليصبح عضواً في مجلس الشورى لفترات عدة فحزن محبوه لفراقه حزناً امتزج بالفرح لتوليه تلك المهمة التي هو أهل لها وهي أهل له. كما توجت تلك الفرحة بعودته -رحمه الله- إلى الجامعة مشكوراً بعد أن استنفد سعادته الفترات القانونية في مجلس الشورى ملبياً دعوة أبنائه وزملائه بالاستمرار معهم في قسم الآثار والمتاحف ليواصل مشواره العلمي بين ظهرانيهم أستاذاً وزميلاً ومشرفاً على طلاب الدراسات العليا وبرامجها وعلى أبحاث الفاو التي انكب سعادته مع زملائه على مراجعتها وتحريرها وإصدار نتائجها في نحو سبع مجلدات إن لم تخني الذاكرة.
إن الأجيال التي تتلمذت على فكر الدكتور الأنصاري ونهلت من مدرسة علمه وأدبه وخلقه - وأنا واحد منهم - تعد أسفاراً تتحرك صفحاتها أطيافاً في الزمان والمكان حاملة سجل إسهاماته الخالدة بكل فخر واعتداد أمام إكبار وإجلال المنصفين وعدالة المحكمين. فنحن تلامذته وزملاؤه قد حظينا بفردوس فكره الذي بذر فيه بذور أيكته الوارفة الظلال التي جاءت ثمارها زكية طيبة فواحة وغدا غرسها ثابت الأصل وفرعها في السماء يانعاً يغذيه عطاء علمه عذباً نميراً.
وفي ختام هذا المقال أتمنى من جامعة الملك سعود تنويع سبل تكريم هذا العلامة المؤسس ومنها وضع اسمه على إحدى القاعات الرئيسية في كلية الآداب تخليداً لذكراه العطر، وإصدار مؤلف عنه يخلد عطاءاته العلمية البحثية النظرية والتطبيقية والإدارية الفذة الرائدة الأصيلة. كما آمل أن يوسم متحف الآثار بالكلية باسم سعادته تكريماً له وعرفاناً بجهوده التي بذلها في تأسيسه. وأقترح أن تسعى الجهات المعنية في الدولة بإنشاء مركز حضاري لدراسات التاريخ والآثار يحمل اسم الأنصاري.
سائلاً الله العلي القدير أن يتغمد الدكتور الأنصاري بمغفرته وواسع فضله وإحسانه وأن يسكنه فسيح جناته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وأن يجمعنا به في عليين وأن يلهمنا وذويه الصبر والسلوان.. وإنا على فراقك يا أبا محمد لمحزونون و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
** **
أستاذ الجغرافيا الطبيعية والأساليب الكمية بقسم الجغرافيا بجامعة الملك سعود سابقاً - العضو السابق للمجلس الاستشاري العالمي الأعلى للجامعة - المستشار العلمي بمعهد الأمير سلطان لدراسات البيئة والمياه والصحراء.