عبد الله سليمان الطليان
نستعرض هنا جزءاً آخر من كتاب (شرور شركات الأدوية) للطبيب البريطاني (بن جولديكر) يتناول فيه عدم كفاءة الرقابة على الأدوية، وكذلك التجارب المعيبة، حيث يقول إن عمل مراقب الأدوية بسيط؛ فمهمته التصديق على العقار في المقام الأول، بعد أن يفحص التجارب التي تظهر جدواه، ويراقب أمان تناوله بمجرد طرحه في السوق، ويبلغ الأطباء بمحاذير تناوله وأضراره، كما أنه يسحب الأدوية غير المأمونة وغير الفعَّالة من السوق. ومما يؤسف له - كما سنرى - أنه برغم وجود الكثيرين من المراقبين الشرفاء الذين يبذلون كل ما بوسعهم من أجل صالح المرضى، فإنهم محاصرون بالمشكلات؛ فهناك ضغوط واقعة عليهم من شركات الأدوية، وضغوط من الحكومة، مشكلات تمويلية، ومشكلات تتعلق بالكفاءة، وتضاربات مصالح في محيطهم، ثم أسوأ المشكلات جميعًا التي تظهر هنا مجددًا، وهي الهواجس بشأن الحفاظ على سرية البيانات.
الضغوط التي يتعرض لها المراقبون
تحتاج جماعات الضغط الفعَّالة إلى وجود صلة شخصية وثيقة بين أفرادها وبين المسؤولين الحكوميين. وتعد المناسبات الاجتماعية من الوسائل المهمة في هذه الإستراتيجية. والهدف منها هو تأسيس علاقات شخصية طويلة الأمد تتجاوز أي مسألة معينة. ويجب على الشركات والمسؤولين بالصناعة أن يتعاملوا كبشر مع صنَّاع القرار الحكوميين، ولا يكونوا مجرد منتفعين يعملون لحساب أعمالهم؛ فهذا يجعل المسؤول الرقابي قبل أن يتخذ أي قرار يفكر أولاً في تأثيره على الجانب الإنساني؛ فالمسؤولون سيكونون أقل استعدادًا لإلحاق الضرر بمن يعرفونهم شخصياً على مدى فترة طويلة مقارنة بالشركات. وبالطبع، هناك أيضًا عناصر تكتيكية مهمة لعملية الضغط هذه.. ويتحقق هذا بأعلى كفاءة ممكنة عن طريق تحديد الخبراء الكبار في كل حقل ذي صلة، وتوظيفهم كمستشارين أو مرشدين، أو إعطائهم منحًا بحثيةً وما شابه. وهذا الأمر يتطلب القليل من الحيلة واللباقة؛ فيجب ألا يكون صارخًا بحيث يشعر الخبراء أنهم فقدوا موضوعيتهم وحريتهم في التصرف. وعلى الأقل، فإن برنامجًا من هذا النوع يقلل التهديد بأن يقدم هؤلاء على الشهادة أو الكتابة ضد مصالح الشركات الخاضعة لرقابتهم.
ثم هناك حرية انتقال الأشخاص فيما بين الهيئات الرقابية وشركات الأدوية، وهو الأمر الذي يخلق مشكلات يصعب كثيرًا مراقبتها واحتواؤها. وتميل الهيئات الرقابية الحكومية لعدم إعطاء العاملين بها مرتبات مجزية؛ لذا بعد عملك لبعض الوقت مثلًا لدى وكالة تنظيم الأدوية ومنتجات الرعاية الصحية قد تبدأ في ملاحظة أن العاملين بقسم الشؤون الرقابية في الشركات التي تتعامل معها، وهم الذين تنشئ معهم علاقات اجتماعية، قد صاروا يمتلكون سيارات أفضل من سيارتك، ويعيشون في أحياء سكنية أرقى من الحي الذي تسكنه، ويذهب أطفالهم إلى مدارس أفضل من التي يدرس بها أطفالك، وذلك رغم أنهم يقومون أساسًا بالعمل نفسه الذي تقوم به، ولكن على الطرف المقابل من العملية. وفي واقع الأمر، فإنك، بما لديك من معلومات وخبرة بالجهة الرقابية التي تعمل لديها، يمكن أن تكون مهماً جداً لدى أي شركة أدوية، ولا سيما أن مجال الرقابة هذا غالبًا ما تكون قواعده المكتوبة مفصلة ولكنها مبهمة والكثير من التفاصيل حول (ما يمكن أن تقتنصه منه) في واقع الأمر يعرفه فقط العاملون به.
ومن ثم تخلق عملية الانتقال هذه مشكلة أخرى؛ فماذا لو كان العاملون لدى إحدى الهيئات الرقابية، وهم لا يزالون في موقع عملهم، يفكرون في العمل مستقبلاً لدى إحدى شركات الأدوية؟ فيحتمل حينئذ أن يتقاعسوا عن اتخاذ قرارات قد تصعب انتقالهم في المستقبل بهذه الشركة أو تلك. هذا تضارب مصالح يصعب كثيرًا ملاحظته والسيطرة عليه؛ حيث لا يوجد اتفاق حالي يمكن اكتشافه، كما أن من الصعب التنبؤ بمن سينتقل إلى شركة ما، ويقل احتمال فرض عقوبات بأثر رجعي. وبالإضافة إلى هذا، لو كان بعض العاملين لدى إحدى الهيئات الرقابية يغيرون سلوكهم على أساس أفكار مبهمة عن توظيفهم في المستقبل، فالأرجح ألا يكون هذا على أساس خطة وظيفية محددة، أو تبادل محدد للخدمات؛ ومن ثم سيكون من الصعب رصد دليل واضح على الفساد، ويأتي أوضح تصوير لكيفية معالجة الوكالة الأوروبية للأدوية لهذه المشكلات من رئيس الوكالة نفسها؛ فهذه الوكالة تراقب صناعة الدواء في جميع أنحاء أوروبا، وقد حملت على عاتقها مسؤوليات المراقب في كل دولة من الدول التابعة لها. وفي ديسمبر 2010 تنحى توماس لونجرن عن منصبه كمدير تنفيذي للوكالة، وفي الثامن والعشرين من الشهر نفسه أرسل خطابًا يخبر فيه مجلس إدارة الوكالة بأنه يزمع البدء في تقديم خدمات استشارية لشركات الأدوية، وذلك بعد أربعة أيام فقط، في الأول من يناير عام 2011 إن لدى بعض الأماكن، وبعض المجالات، توجيهات واضحة فيما يتعلق بهذا النوع من الأمور؛ ففي الولايات المتحدة - على سبيل المثال - عليك أن تنتظر عاماً كاملاً بعد تركك العمل في وزارة الدفاع قبل أن يمكنك العمل كمقاول دفاع. وبعد عشرة أيام كتب رئيس الوكالة الأوروبية للأدوية رداً على لونجرن قائلاً إنه لا غبار على ما فعله. فلم يفرض أي قيود عليه، ومما يلفت النظر أنه لم يطلب أي معلومات عن نوع العمل الذي خطط لونجرن للقيام به وكان لونجرن قد قال في خطابه إنه لن يكون ثمة أي تضارب مصالح في الأمر، وإن هذا يكفي لكل من يهمه الأمر.
ما يهمني هنا ليس توماس لونجرن، وإن كنت أظن أننا جميعًا سنجد صعوبةً في الإعجاب بسلوكه؛ وذلك لأننا جميعًا، في أوروبا على أي حال، استعنا بخدمات شركته الاستشارية. ولكن قصته تثير اهتمامنا لما تخبره عن الوكالة الأوروبية للأدوية وتعاملها العشوائي مع هذه الأنواع من المشكلات؛ فذلك الرجل الذي كان في السابق يشرف على عملية التصديق على الأدوية الجديدة هو الآن يقدم خدمات استشاريةً للشركات عن كيفية حصولهم على تصديق بتداول أدويتهم بعد أن أخطر الوكالة بخطته قبل تنفيذها بأربعة ولا أحد في هذه المؤسسة اعتبر هذا الأمر مشكلة، وذلك برغم أن هذا يمثّل تضارب مصالح واضحًا. وفي الواقع، إن هذا ليس أمراً غير معتاد؛ فلقد أصدر المرصد الأوروبي للشركات مؤخرًا تقريرًا مفصلاً عن خمس عشرة حالةً مماثلة لمسئولين كبار في الاتحاد الأوروبي يتحولون من مناصبهم الحكومية إلى مناصب في القطاع الخاص الذي كانوا يشرفون عليه.
التجارب المعيبة
نحن على وشك أن نرى الطرق المختلفة الكثيرة التي يمكن من خلالها أن تكون التجارب معيبة، فيما يختص بتصميمها وتحليلها، بحيث تضخم من الفوائد وتهون من الأضرار. وبعض هذه المراوغات والتشويهات تعد انتهاكات واضحة؛ فالغش، على سبيل المثال، هو تضليل لا يمكن التسامح فيه، ولكن بعضها - كما سنرى لاحقًا - يعد مناطق رمادية. فيمكن أن تكون هناك حالات من التحايل في المواقف الصعبة لتوفير المال أو الحصول على نتيجة أسرع، ويمكننا أن نحكم فقط على كل تجربة على أساس وقائعها الفعلية. ولكن من الواضح - حسبما أعتقد - أن ما يحدث في كثير من الحالات هو محاولات لاختصار الوقت والجهد والمال لدوافع فاسدة.
ويجب أيضًا أن نتذكر أن الكثير من التجارب المعيبة قد أجراه أكاديميون مستقلون. في الواقع وإجمالاً، وكما تحرص شركات الأدوية على التأكيد، فإنه كلما قورن بين الطرق البحثية للتجارب التي ترعاها جهات مستقلة في مقابل التي ترعاها شركات الأدوية، عادة ما نجد أن الأولى تكون أفضل. وقد يكون هذا حقيقياً، ولكنه يكاد يكون بلا مدلول حقيقي، لسبب بسيط، هو أن الأكاديميين المستقلين لاعبون صغار في هذا المضمار؛ فتسعون بالمائة من التجارب الإكلينيكية المنشورة ترعاها شركات الأدوية؛ ولذلك، فهي تهيمن على هذا المجال بالكامل، وتضبط إيقاعه وتضع قواعده.
الغش شيء حقير. سترى حيلاً ماكرة، وحالات من الإفلات بدهاء، وسلوكيات خاطئة بارعة تقع عند الحافة بين القبول واللا قبول. إلا أن الغش هو أكثر ما يصيبني بخيبة الأمل؛ إذ لا براعة فيه ولا مهارة، ولا شيء من المراوغة المنهجية، ولا قابلية مقبولة للإنكار، ولا جدال في أنه تلاعب واضح بالبيانات. فما على الشخص سوى فبركة النتائج، وإذا لم تعجبه، فإنه يحذفها ويتجاهلها، ثم يبدأ مجددًا. من ثم، فإن من حسن الحظ - بالنسبة إلي وإلى المرضى- أن الغش أيضًا شيء نادر نسبيا، وذلك على حد علم الجميع. وأفضل تقدير حالي لمعدل انتشاره تجده في مراجعة منهجية أجريت في عام 2009 ، جمعت معًا نتائج بيانات استقصائية من إحدى وعشرين دراسة، سألت باحثين من جميع مجالات العلم عن الممارسات العملية المعيبة. ومما لا غرابة فيه أن أولئك الناس أعطوا إجابات مختلفةً للأسئلة عن الغش، تبعًا لطريقة سؤالهم عنه؛ فقد اعترف اثنان بالمائة بأنهم فبركوا أو زيفوا أو عدلوا بيانات على الأقل مرة واحدة، ولكن هذه النسبة ارتفعت إلى 14 بالمائة حينما سئلوا عن سلوك زملائهم. واعترف ثلثهم بارتكابهم ممارسات بحثيةً مشبوهة أخرى، وارتفعت النسبة إلى 70 بالمائة حينما سئلوا عن زملائهم.
أن جميع المجالات عرضة للعرض الانتقائي لنتائج الأبحاث التي تجرى فيها، وقد تلاعب بعض العلماء المشاهير جداً بنتائج أبحاثهم بهذه الكيفية؛ فقد فاز العالم الفيزيائي الأمريكي روبرت ميليكان بجائزة نوبل في عام 1923 بعد إظهاره من خلال تجربة قطرة الزيت الخاصة به أن الكهرباء تتكون من وحدات مفردة هي الإلكترونات. وكان ميليكان في منتصف حياته العملية (وهي ذروة فترات الإقدام على الغش) ولم يكن معروفًا نسبيا.
وكتب في بحثه المشهور المنشور في دورية (فيزيكال ريفيو) يقول: (إنها ليست مجموعةً منتقاة من القطرات ولكنها تمثِّل جميع القطرات التي اختبرت على مدى ستين يومًا متتالية) وكان هذا الادعاء غير صحيح بالمرة؛ ففي ذلك البحث كان ثمة ثمان وخمسون قطرة صغيرة، ولكن عدد ما سجله في دفاتر الملاحظات الخاصة به كان 175 مع كتابة عبارات في هوامشها، مثل (انشر هذه النتيجة الجميلة) وقد ثار جدل في الأدبيات العلمية على مدى سنوات كثيرة عمَّا إذا كان هذا يشكل نوعًا من الغش، هناك الفبركة الصريحة. على سبيل المثال، كان الدكتور سكوت روبن اختصاصي تخدير أمريكياً يدرس كيفية إدارة الألم، وكان قد نشر خلال العقد السابق ما لا يقل عن عشرين تجربةً إكلينيكية، ولم يكن قد أجراها أصلاً على الإطلاق. وحتى في بعض الحالات، لم يزعم الحصول على موافقة على أن يجري دراسات على المرضى في المنشأة التي يعمل بها، وقدم ببساطة نتائج التجارب التي اختلقت أصلاً من لا شيء. ويجب أن نتذكر دائمًا أن البيانات في مجال الطب ليست شيئًا تجريدياً أو أكاديمياً؛ فلقد ادعى روبن أنه توصل إلى أن العقاقير غير الأفيونية بنفس فاعلية العقاقير الأفيونية في معالجة الألم بعد العمليات الجراحية. وهذا بث السعادة في قلوب الجميع؛ فالعقاقير الأفيونية بصفة عامة تسبب الإدمان، ولها المزيد من الآثار الجانبية. ولقد تغيرت الممارسة في أماكن كثيرة، وصار هذا الحقل الآن تسوده الفوضى؛ فمن بين جميع أركان الطب، حيث يمكنك أن ترتكب الغش، وتغير القرارات التي يتخذها الأطباء والمرضى معًا، يعد الألم مجالاً جوهرياً بحق.
هناك طرق متعددة يمكن من خلالها الكشف عن عمليات الغش، ومن المفترض أن يكون من بينها المراقبة اليقظة المستمرة من جانب المؤسسات الطبية والأكاديمية، ولكن هذه المراقبة لا تحدث بأي درجة كافية. وغالبًا ما يتم هذا الكشف بالصدفة أو بنحو كيدي أو انتقامي أو نتيجةً لشكوك محلية؛ فعلى سبيل المثال، كان مالكولم بيرس جراحًا بريطانياً في مجال التوليد، ونشر في إحدى الدوريات تقرير حالة زعم فيه أنه أعاد زرع جنين داخل رحم أمه كان قد تكون من حمل خارج الرحم؛ مما نتج عنه ولادة ناجحة لطفل سليم. تنبه لهذا الأمر اختصاصي تخدير وفني عمليات جراحية في المستشفى نفسه الذي كان يعمل به بيرس، وكانا يعتقدان أن هذا أمر غير مرجح، وأنهما كانا سيسمعان بأمر مهم كهذا لو أنه حدث فعلاً، فراجعا السجلات ولم يجدا أي سجلات ذات صلة قريبة ولا بعيدة بهذا الحدث المزعوم؛ ومن ذلك الحين افتضح أمره2 ومما يلفت النظر أنه في العدد نفسه من الدورية نفسها، نشر بيرس بحثًا آخر عن تجربة لعلاج الإجهاض المتكرر في مائتي امرأة يعانين من متلازمة تكيس المبايض. ولكن هذه التجربة لم تحدث مطلقًا، ولم يكتف بيرس بما اختلقه عن المريضات والنتائج، بل اختلق حتى اسمًا خيالياً لشركة الأدوية الراعية للتجربة، وهي شركة وهمية ليس لها وجود. ولكن في عصر محرك البحث جوجل، لم يكن لكذبة كهذه أن تدوم طويلًا.