عبدالوهاب الفايز
بعد قمة الرياض العربية الصينية في منتصف ديسمبر الماضي قلنا هنا («الجزيرة» الأربعاء 14 ديسمبر 2022) في مقال تحت عنوان (الشراكة الإستراتيجية مع الصين.. ومهددات الأمن والاستقرار بالمنطقة) إننا في العالم العربي ننتظر من الصين استنادًا لشراكتها الإستراتيجية مع الدول العربية، أن تتفاعل كقوة عظمى لاستخدام نفوذها على إيران لكي تحترم وتقدر مصالح شعوب المنطقة وتلتزم بأخلاقيات ومبادئ الإسلام التي تعظم حقوق الإنسان، وتعظم حقوق الجار.
ويبدو أن نهج الحوار الصريح والدبلوماسية الصبورة لبلادنا، بدعم أشقائنا في العراق وسلطنة عُمان، أثمرت عن انتصار تاريخي تنتظره شعوب المنطقة، فالاتفاق السعودي الإيراني الذي تم الأسبوع الماضي وبوساطة صينية، سوف يطلق حقبة جديدة لعودة العلاقات بين البلدين وفقًا لمنظور جديد يضع أولويات الأمن والاستقرار في المقدمة.
وكما توقعنا، فالعمل الصيني الجاد في هذا الملف سوف ينمي الثقة بين الشعوب العربية والصين، وهو ما انعكس في التصريحات السريعة التي جاءت من أغلب الدول العربية مرحبة بهذا الاتفاق الضروري للمضي بمواجهة التحديات الساخنة المطروحة التي تهم الجانبين، كالتي تضمنها بيان الرياض مثل (تعزيز الحوار بين الحضارات واحترام الثقافات المختلفة، ونبذ دعاوى الكراهية والتطرف وصراع الحضارات بين أتباع الأديان والثقافات، والتأكيد على معارضة الإسلاموفوبيا بكل أشكالها). ودون شك، هذا الاتفاق سوف ينعكس على توطيد علاقات الصداقة العربية الصينية.
وربما السؤال المطروح هو: لماذا تلقى جهود الصين السياسية والدبلوماسية القبول في المنطقة؟
ربما نجد الإجابة من حقيقة تاريخية وهي أن أمريكا وحلفاءها الغربيين لم يكونوا جادين لإرساء السلام في المنطقة، والصين أيضًا تاريخها مع المنطقة إيجابي، فقد عانت من الاستعمار وسرقة الثروات. في المقابل الغرب تاريخه مع المنطقة مثقل بالمظالم والحروب والتدمير والاستعمار ونهب الثروات منذ بداية الحروب الصليبية.
وطبعاً نحن يهمنا استمرار بناء بلادنا واستثمار ثرواتنا، وهذا يتطلب السلام والأمن الدائمين، ويتطلب الحرص على الحياد في المواقف الدولية وتغليب المصالح الوطنية العليا للشعب السعودي وللشعوب العربية وللبشرية أجمع، وهذا هو نهج المملكة المعلن الذي يقوم على هذا المبدأ السياسي قبل الاتفاق الأخير، وهذا يرد على من يعتقد أن المملكة تبني علاقاتها على ردود أفعال معينة، سواء من الحلفاء أو من الأصدقاء.
والمتأمل في مخرجات الاتفاق الثلاثي يجد ملامح هذا الموقف السعودي الواضح، فالمملكة ليست الطرف الأكثر استفادة من الاتفاق، بل هي الأقل. المستفيد الأكبر الشعب الإيراني، والشعوب العربية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، فهذه هي المتضررة من الحروب في المنطقة.
وحين نقول إن الشعب الإيراني هو المستفيد الأول من هذا الاتفاق فهذا تدعمه الحقائق، فبعد الإعلان عن استئناف العلاقات تأثر سريعاً سوق العملة في إيران. وكالة أنباء «إيسنا» الحكومية ذكرت أن سعر الدولار تراجع إلى 477 ألفاً في السوق غير الرسمية بعدما كان قد تخطى (الأربعاء) مرة أخرى حاجز 510 آلاف ريال. وهذه المنافع السريعة المباشرة للسلام تؤكد أن الالتزام الصارم بتنفيذ بنود الاتفاق سوف يكون أثره الاقتصادي المتعدي أوسع وأعمق، والأهم أنه سوف يؤسس لمبادئ جديدة لإدارة الأزمات والمصالح في المنطقة.
وهذا هو روح الاتفاق الذي حرصت عليه جميع الأطراف وهو ما أشار إليه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، حين ذكر أن استئناف العلاقات الدبلوماسية يأتي (انطلاقاً من رؤية المملكة القائمة على تفضيل الحلول السياسية والحوار، وحرصها على تكريس ذلك في المنطقة). أيضاً الوزير الدكتور مساعد العيبان رئيس الوفد السعودي المفاوض ذكر أن الاتفاق (يأتي انطلاقاً من نهج المملكة الثابت والمستمر منذ تأسيسها في التمسك بمبادئ حسن الجوار والأخذ بكل ما من شأنه تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، وانتهاج مبدأ الحوار والدبلوماسية لحل الخلافات).
والملاحظ أن أبرز الفرحين في الاتفاق هو الشعب العراقي وقيادته الوطنية العروبية. وزارة الخارجية العراقية صرحت أن الاتفاق سوف يوجد (مناخاً جديداً للتفكير بمصالح المنطقة). وقالت إن الاتفاق (يأتي تتويجاً لرؤية الجانبين بأولوية الحوار بوصفه سبيلاً لخفض التوتر). ويتطلع العراق إلى (منطقة آمنة وبيئة تعزز فرص التنمية، ولا يكون ذلك إلا بإرادة جماعية تتجاوز الخلافات، ويحمل ثماره الإيجابية، وسيخلق مناخاً جديداً للتفكير).
بقي القول أن التحدي الأكبر هو في (صنع السلام) وبناء الجسور وتهدئة النفوس ومحاصرة مشعلي الحروب والفتن.. فالبناء أصعب من الهدم، فما يُبنى في سنوات ينتهي في يوم. والدول العربية أمامها فرصة تاريخية للاستفادة من الاتفاق الذي سوف يترتب عليه:
أولاً، إيقاف الحروب الطائفية والمذهبية في المنطقة التي تبنتها ومولتها إيران لسنوات طويلة في أغلب الدول العربية.
ثانياً، تقوية موقف الدول العربية في قضية العرب الأساسية، أي القضية الفلسطينية، وهذا يعني إيقاف طموح إسرائيل ورغبتها في قيادة المنطقة اقتصاديًا.
ثالثًا، توجيه الموارد المالية إلى الإعمار والبناء، وتكريس الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
رابعاً، تقوية المواقف العربية والإسلامية إزاء القضايا الإقليمية والدولية، بالذات إبعاد المنطقة عن مشاكل القوى والتكتلات الدولية.
خامسًا، تقوية المواقف العربية والإسلامية إزاء مشاريع الحروب الفكرية والثقافية التي تستهدف تحييد الهويات الوطنية ودمجها في الأممية الثقافية الليبرالية الغربية المتطرفة، والتي تعظم حقوق الفرد وتسعى إلى نشر وفرض قيم الشواذ الجنسي وطمس الهويات الجندرية.
المنطقة بحاجة إلى السلام والأمن والتنمية المستدامة، وهذه فرصة لنا وللصين.