رضا إبراهيم
لأن المياه هي المقوم الأساسي للحياة لقوله تعالى في محكم آياته في كتابه العزيز {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} (الأنبياء - 30)، لذلك ارتبطت نشأة وبقاء المجتمعات القديمة والحديثة بوجود المياه فيها، فلا يمكن لأي مجتمع أياً كان الاستغناء عن المياه، باعتبارها سبباً لإنبات الأرض والحصول على الغذاء وكافة الشؤون الأخرى.
وبالنظر لشح الموارد المائية على مستوى العالم، فقد اهتمت العديد من الحكومات والمنظمات الدولية والمراكز البحثية المختصة، بالبحث عن موارد إضافية للمياه، بهدف منع الجفاف ومكافحته، والمساهمة في تعزيز مستوى المياه الجوفية، وتوسِعة الرقعة الخضراء في المناطق الحضرية، ومن بين تلك التقنيات تقنية (التهطال) أي حصاد مياه الأمطار.
وحصاد الأمطار عملية ذات أهمية كبيرة جداً، سواءً للأجيال الحالية أو القادمة، وهي تقوم على تركيز الهطل بواسطة الجريان والاستخدام تمهيداً لاستخدامه على نحو مفيد، وتوجد هناك العديد من التقنيات لحصاد الأمطار وإدارتها، لتوفير بعض العوامل المساعدة على حصاد الأمطار والاستفادة من أكبر كمية يمكن الوصول إليها من هذه المياه، وتلك العملية يمكنها أيضاً توفير المياه للمناطق التي تبعد عن مصادر المياه الأخرى، أو التي يكون توفير المياه فيها عالي التكلفة، وحصاد الأمطار تعتبر عملية ملائمة جداً بشكل خاص، لتوفير المياه للنجوع والقرى الصغيرة والمدارس والأحياء البرية ... إلخ.
وتشمل مصادر عملية حصاد الأمطار، ناثرات المياه والحفائر والأخاديد والحواجز الكنتورية وحرث الشرائح الكنتورية، وكل هذه المصادر تشمل عدداً من المزايا أهمها سهولة نشر المياه، وقلة تكاليف التشييد، وسهولة تشغيل الهياكل وصيانتها، بجانب إمكانية اختيار وتحديد شكل التقنية المناسبة للظروف السائدة بالمنطقة المستهدفة من بين العديد من التقنيات الأخرى، إضافة إلى الوصول للحد الأقصى من تدهور التربة نتيجة تدفق المياه، وكذلك غسل التربة المالحة لتصبح أكثر ملاءمة لزراعة المحاصيل الزراعية، بعد تقليل الكمية الإجمالية للمواد الصلبة التي تم إذابتها.
واعتمدت عملية حصاد الأمطار على السدود، باعتبارها إحدى أهم التقنيات وأقدمها، إذ تشير سجلات التاريخ إلى أن أول سد أقيم لحجز الأمطار كان في مصر القديمة منذ نحو (40) قرناً من الزمن، لتحويل مجرى نهر النيل تمهيداً لتشييد أهم العواصم المصرية القديمة وأول عاصمة مصرية وهي مدينة «ممفيس» الواقعة جنوب الدلتا بنحو (24) كيلو متراً، والذي بناه الملك مينا مؤسس مصر الموحدة في عصر الدولة الفرعونية الأولى، لحجز مياه الأمطار للاستفادة منها وحماية مباني عاصمة الدولة الأولى من الفيضانات، وذلك السد شُيّد من الأحجار الصلبة كالتي ظهرت في الأهرام، وكان أقصى ارتفاع لقمته يصل إلى (15) متراً وبطول (450) متراً من التربة المدموكة والمكسوة بالأحجار الصلبة.
وبشكل عام وتضامناً مع ما سبق، هناك العديد من أنواع السدود المخصصة لذلك الأمر، منها السدود الركامية، ومنها السدود الترابية والسدود الخرسانية والسدود الجوفية، وكلها سدود تهدف أساساً لتخفيف الأعباء، وعدم استنزاف المياه الجوفية المحدودة، وتوفير مياه الشرب لبعض المناطق والمجتمعات، وأيضاً توفير مياه الري لزوم أعمال الري في المناطق الزراعية الواقعة على مقربة من السد نفسه، ولحماية القرى والمدن من مخاطر وأضرار السيول والفيضانات، وزيادة معدلات تغذية المياه الجوفية في منطقة السد.
كما تأتي أهمية المياه في المنطقة العربية، نظراً لوقوع نحو (60) بالمائة من موارد المنطقة الجارية خارج أراضي الدول العربية، ما شكل تهديداً مباشراً على أمنها القومي، وعلى مستوى إقليم الجزيرة العربية تحديداً، والذي يضم في أساسه المملكة العربية السعودية، وهذا الإقليم اتسم هو الآخر بشح الموارد المائية، لاحتوائه على نحو (7،7) بالمائة من حجم المياه الموجودة في أراضي الوطن العربي، كما تصل كمية الموارد المائية بالنسبة للسعودية في إقليم الجزيرة العربية نحو (44.7) بالمائة.
ومشكلة ندرة المياه في السعودية ترجع إلى قديم الأزل، ما اضطر المسؤولين إلى القيام بوسائل مختلفة بسحب كميات لا حصر لها من المياه الجوفية (غير المتجددة) لمواكبة الطلب على المياه، صاحبه النمو السريع في مشروعات الزراعة، والتزايد المستمر في تعداد السكان وارتفاع مستوى المعيشة، الأمر الذي ألقى بظلاله وأدى لزيادة الطلب على المياه للأغراض المتعددة، وزيادة الحاجة إلى تحلية مياه البحر، لذلك قامت المملكة باتخاذ الإجراءات المناسبة للحفاظ على كميات المياه الآتية من الأمطار لتحقيق أكبر فائدة منها في الأماكن الصحراوية والجافة، بالعمل على تخزين المياه خلف السدود في المنطقة الوسطى من الأراضي السعودية.
وكذلك التخزين بمجرى الوديان في المناطق الجنوبية العربية من المملكة والمعروفة بـ «الدرع الغربي» وتلك المنطقة أقيمت فيها سدود على القاعدة الصخرية مباشرة، ما يصعب لأقصى حد ممكن تسرب المياه تحت السدود ناحية انحدار الوديان، ومن بين الأعمال المثلى التي تم اتخاذها للاستفادة القصوى من مياه الأمطار، عمل الخبراء السعوديون على الاعتماد بشكل خاص على إقامة السدود في المناطق الأكثر عرضة للفيضانات، وتلك السدود ليست بالضرورة أن تكون خرسانية، لكن يمكن اتباع طرائق تقنية حديثة ومحدودة التكلفة، لإعادة تخزين المياه المجمعة خلف السدود إلى باطن الأرض المقامة عليها، وعبر حقن المياه في باطن الأرض من خلال آبار تغذية اصطناعية حفرت في بحيرة السد، ما قلل وبشكل كبير مما يتم فقده من المياه نتيجة التبخر، وبذلك يصبح للسدود دورٌ إيجابيٌّ على البيئة الصحراوية الجافة بأراضي المملكة العربية السعودية.
وحول إقامة الحفائر لتعزيز مستوى الموارد المائية، فقد أقيمت الحفائر على مقربة من الممرات المائية وقت هطول الأمطار، والعمل على استغلال الأرض بين الممر المائي والحفر لتهدئة المياه، وترسيب الجزء الأكبر من المواد الطينية العالقة بها، وعقب ارتفاع منسوب المياه بمناطق التهدئة، سرعان ما تبدأ المياه في الانسياب لملء تلك الحفائر، علماً بأن كلاً من الممرات المائية ومناطق التهدئة ومداخل الحفائر على ارتباط وثيق الصلة بمناسيب مدروسة بجدية، كي تضمن نجاح المشروع ودوام الفائدة منه.
وتتراوح أبعاد الحفرة الواحدة ما بين (100 - 500) متر طول أو أزيد، وهي بعرض يتراوح ما بين (50 - 100) متر أو أزيد فوق سطح الأرض، ويتراوح عمقها من (7 - 9) أمتار، ولإبقاء المياه داخل الحفرة أطول مدة ممكنة عقب هطول الأمطار، جرى معالجة الحفرة من كل الأرضيات والأجناب بمواد مخصصة ضد الرشح أو التسرب، ما يؤدي إلى حفظ المياه بالحفرة لمدة زمنية تصل لنحو عام كامل أو أزيد قليلاً، وتقنية الحفائر هذه تقنية مطورة وأشبه بأسلوب حصد وتجميع مياه الأمطار بـ «درب زبيدة» وهي الواقعة بين أرض العراق ومكة المكرمة.
هذا وقد تبنت وزارة البيئة والمياه والزراعة عام 2022م العديد من المبادرات والبرامج لتنمية القطاع النباتي الطبيعي ومكافحة ظاهرة التصحر، أهمها مبادرة السعودية الخضراء ومبادرة الشرق الأوسط الأخضر، بجانب مبادرة الموارد المائية المشتملة على (15) مبادرة، منها تطوير موارد المياه المتجددة، ونتج عن كل ذلك العديد من المشروعات، التي أسهمت بفاعلية في تعزيز الاستفادة من المياه المتجددة، مثل تشييد السدود بسعة تخزينية للمياه بلغت نحو (2،6) مليار متر مكعب، بجانب تطوير مشروعات حصاد مياه الأمطار وتأهيل المدرجات الزراعية، وبرامج التنمية الريفية.
ومن قبل وفي عام 2005م قام معهد الأمير سلطان لأبحاث البيئة والمياه والصحراء بجامعة الملك سعود (مركز دراسات الصحراء) تعاوناً مع عدة جهات معنية، بتنفيذ مشروع (الملك فهد) والاستفادة من كل تقنيات وأساليب حصد وتخزين مياه الأمطار والسيول بالمملكة، وهو مشروع أثبت جدواه في نواحٍ عدة، أهمها تأمين المياه لسكان البادية وسقيا الماشية، وتوفير بيئة نباتية خففت كثيراً من تأثير الظروف المناخية القاسية، وفي ذات الوقت باتت مصدراً هاماً للرعي والترفيه، واشتملت خطة تنفيذ المشروع على مرحلتين أساسيتين، الأولى تجريبية وفيها اختيرت المواقع المناسبة بعناية فائقة، بعد الاعتماد على الأساليب العلمية المتبعة بذلك المجال لتنفيذ (3) غدران اصطناعية في «ضرماء والخرج ومفرق تمير» على طريق «الخرج - القصيم».
بجانب ثلاثة مواقع أخرى لتخزين المياه خلف السدود في «العلب وحريملاء والحريق»، بينما جرى بالمرحلة الثانية تعميم المشروع بمناطق مختلفة من المملكة العربية السعودية، وبعد قياس ما أنفق على هذه المشروعات مقارنة بفوائدها المرجوة اعتبرت تكلفة ضئيلة جداً، وذلك بشهادة كثير من المزارعين والرعاة وأصحاب المصالح، ممن أعربوا عن سعادتهم بتحسن المياه الجوفية بمزارعهم ووصولها لأفضل مستوى، وكل ما سبق يظهر نجاح التجربة السعودية بحصاد وتخزين مياه الأمطار والسيول، وتفوقها على العديد من الدول الأخرى في ذات المجال، بجانب تحقيق المملكة فوائد اقتصادية واجتماعية لا يمكن أبداً إنكارها أو التقليل من شأنها.