د. عبدالحق عزوزي
قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بجولة إفريقية بدأها من الغابون، حيث شارك في «قمة الغابة الواحدة» المخصصة للحفاظ على غابات حوض نهر الكونغو؛ كما زار بموجب هذه الجولة، ثلاث دول أخرى هي أنغولا وجمهورية الكونغو (برازافيل) والكونغو الديمقراطية..
وشارك الرئيس ماكرون في ليبرفيل بالغابون في «قمة الغابة الواحدة» (وان فوريست ساميت) المخصصة للحفاظ على غابات حوض نهر الكونغو وتعزيزها؛ ويشكل حوض الكونغو الذي يضم 220 مليون هكتار من الغابات، ثاني أكبر مساحة غابات وثاني رئة بيئية للأرض بعد الأمازون ويمتد في عدد من الدول بينها خصوصاً الكونغو الديمقراطية والكونغو برازافيل والغابون؛ وللذكر فإن هاته الغابات من إفريقيا إلى البرازيل وجنوب شرق آسيا، مهددة بالاستغلال المفرط للزراعة والصناعة وفي بعض الحالات إنتاج النفط.
وإذا كانت الرئاسة الفرنسية قد أعلنت أن زيارة الرئيس الفرنسي إلى هاته البلدان قد خصصت لتعميق العلاقات الفرنسية الإفريقية في مجالات التعليم والصحة والبحث والثقافة والدفاع وغيرها، فإنه لا مناص من الاعتراف من أن هاته الجولة برمجت لتدارك التراجع التاريخي للنفوذ الفرنسي في القارة الإفريقية لفائدة دول أخرى مثل روسيا والصين؛ فقد تفاقمت المشاعر المعادية لباريس في القارة إلى درجة أنه قبل أخذه الطائرة ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه خطابا أوضح فيه الخطوط العريضة لإستراتيجية بلاده الدبلوماسية والعسكرية في القارة الإفريقية داعياً إلى التحلّي بـ»التواضع» و»المسؤولية»، وهو ما يمكن أن يعتبر اعترافاً بالأخطاء الجسيمة التي اقترفتها الإستراتيجيات الفرنسية في المنطقة منذ استقلال تلكم البلدان...
ففرنسا بقيت تسبح في عالم قائم على معادلة الدولة المستعمرة (بكسر الميم) والدولة المستعمرة (بفتح الميم)، بمعنى أنه يحق لها إملاء قواعد التعاون المشترك وإعلاء مصالحها على حساب الآخرين، وهذا ما خلق مع مرور الوقت وصعود نخب إفريقية جديدة، مدنية وعسكرية، وبعضها من خريجي المدارس الأنجلوساكسونية، مشاعر معادية لمصالح فرنسا بل وأضحت سياسات عمومية تقبل الشركاء الآخرين الذين يفهمون قواعد المصالح المشتركة، مثل الصين التي استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها، كما فعلت وتفعل الدول الأخرى كفرنسا وأمريكا، اللتين يسعيان إلى تصدير نموذجها زاعمة أنه لا يمكن تحقيق اي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي، بل وأيضاً نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فالصين، ما دام أن مصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشاكل، وتمؤسس لقاعدة مفادها بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق- عدو» أو دولة مستعمرة - دولة مستعمرة وإنما في إطار «رابح-رابح» win-win
ومنذ سنوات، تقوم الصين بإنشاء طرق حرير جديدة؛ وقد بدأت مغامرة أول طريق للحرير مع ماركو بولو قبل نحو 1000 عام؛ وبمرور السنين، أصبح هذا البرنامج الاستثماري الضخم في البنية التحتية بمثابة السياسة الكبرى للدولة.. وقد نجح الرئيس الصيني في إقناع العديد من دول العالم على النسخة الحديثة لهذا الممر الاقتصادي والتجاري. ويقوم العملاق الصيني بتغيير الخريطة الاقتصادية العالمية على جميع الأصعدة، من الحوكمة العالمية إلى القواعد التجارية مروراً باحترام البيئة وعمليات الاستثمار، من خلال توظيفه استثمارات كثيفة في جميع أنحاء العالم..
ويتكون مشروع بكين الطموح من قسم بري، ويتمثَّل في إنشاء وتمويل سكك حديدية بين الصين وأوروبا، وقسم بحري، يتمثّل في استثمارات في عشرات الموانئ عبر العالم لتيسير التجارة الصينية.
ففي القارة الإفريقية مثلاً، لا تبني الصين طرقاً فقط ولكنها تُكون صداقات وتحالفات عسكرية، وتعتمد هناك على الاستثمار في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري... وتشير دراسة أجرتها «وكالة ماكنزي الأمريكية» أن أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حاليا في إفريقيا كما أن بعض المصادر تتحدث عن 2500 شركة، 90 بالمائة منها شركات خاصة. كما لا يخفى على المتتبعين الإستراتيجيين الوجود العسكري في إفريقيا؛ فقد سبق وأن أرسلت الصين بارجتين بحريتين إلى القرن الإفريقي وبالتحديد إلى جيبوتي حيث تملك قاعدة عسكرية ولوجيستية هناك.. فما يزيد عن 400 عسكري أضحوا يتواجدون في هذه القاعدة لتأمين طرق الملاحة في القرن الإفريقي على مستوى خليج عدن والقرن الإفريقي.