د.محمد بن عبدالرحمن البشر
هذه الألقاب الثلاثة لرجل مميز، عاش بالأندلس في القرن الثامن الهجري، في ظل حكم بني الأحمر أو بني نصر أو مملكة غرناطة، فلها ثلاثة أسماء،كما أن له ثلاثة ألقاب، وهو الغني عن التعريف لسان الدين بن الخطيب، الذي أثر تأثيراً كبيراً في كثير من مجريات الأحداث التي سادت تلك الفترة، ومن المعلوم أن تلك الفترة كانت تعج بالخلافات داخل البيت الحاكم، ولسنا بصدد الحديث عنها، وفي نهاية الأمر وصل الحكم إلى أبو الحجاج يوسف، واستقرت الأوضاع في عهده إلى حد بعيد، وانصرف الناس إلى البحث عن قوت يومهم وأعمالهم، وفي تلك الفترة كان ابن الخطيب، هذا الرجل المميز صاحب الألقاب الثلاثة، قد نهل من العلم على يد الحكيم العالم يحى بن هذيل الشيء الكثير، وساعدته عبقريته على تحصيل علمي فائق في العلم الشرعي، والتاريخ، والأدب، والشعر، والطب، والفلسفة، وعين نائباً لأبي الحسن الحباب الذي كان رئيساً لديوان الكتابة في عهد أبو الحجاج يوسف واستفاد من علمه الشرعي، وأسلوبه في كتابة الرسائل السلطانية، وانتشرت قصائده في مدحه سلطانه، وبعد وفاة أبي الحسن أصبح ابن الخطيب رئيساً لديوان الكتابة، ثم وزيراً لأبي الحجاج يوسف، فأصبح أكثر براعة من رئيسه، وأستاذه أبي الحسن في فن كتابة الرسائل السلطانية، ولم يظهر أحد قط في مملكة غرناطة منذ قيامها حتى نهايتها ونهاية الأندلس أفضل منه، وأظهر مهارة في الطب، أما كتبه التاريخية، فقد حفظت لنا كثيراً من المعلومات عن الأندلس، والتي تجاوزت الـ 50 كتاباً ضاع جلها ولم يبق منها إلا القليل.
بعد وفاة السلطان أبو الحجاج يوسف تولى الحكم بعده ابنه محمد الغني بالله فأصبح لسان الدين بن الخطيب وزيراً له، وبعد فترة من الزمن أصبح ذا الوزارتين، حيث تولى وزارة السيف والقلم، أي الأمور العسكرية والأمور الإدارية، وبهذا سمي ذو الوزارتين، أما تسميته بذي العمرين فذلك يعود إلى انشغاله بتسيير أمور الدولة في النهار، وانكبابه في المساء على التأليف تحت الشموع، وهناك من يقول إنه مصاب بالأرق، ولهذا فإنه يشغل نفسه بالكتابة في المساء، ولهذا سميّ بذي العمرين، أما تسميته بذي الميتتين، فذلك يعود إلى الأسلوب الفج الذي تم به قتله ودفنه، ثم إخراج جثته وحرقها ودفنها في قصة ستأتي لاحقاً.
الفترة التي تولى فيها تلك السلطات المطلقة في عهد محمد الغني بالله، حاول إبراز اثنين من تلاميذه وكان له ما أراد، وهما ابن زمرك الذي جعله رئيس ديوان الكتابة والآخر هو القاضي النباهي الذي أصبح قاضي القضاة في غرناطة واللذان أصبحا فيما بعد سبب نكبته.
لقد سارت الأمور في غرناطة كما أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون، قد يسبب حسن تصرف لسان الدين بن الخطيب، وحكمته في التعامل مع القوتين الكبيرتين المحيطة بمملكة غرناطة، وهما القشتاليون في الشمال، وحكام المغرب في الجنوب، لكن وقع مالم يكن في الحسبان فقد استطاع اثنان من إخوان محمد الغني بالله أن يقفزا إلى كرسي الحكم ويطيحا بالسلطان ومعه لسان الدين بن الخطيب، وتوليا مقاليد الحكم، وتدخل سلطان المغرب أبو عنان المريني، الذي كان على علاقة ممتازة مع لسان الدين بن الخطيب طالباً التوسط والسماح للسلطان المخلوع محمد الغني بالله ووزيره ابن الخطيب القدوم إلى المغرب، والإقامة هناك في المنفى، فكان له ما أراد، فسارا إلى هناك، وقد كانت هذه المرحلة من حياة ابن الخطيب مهمة جداً، فقد عاش في المنفى سنتين قضاها في الترحال داخل المغرب، والتأليف، كما تعرف على رئيس ديوان الإنشاء في بلاط السلطان المريني أبي زيد عبدالرحمن بن خلدون المؤرخ المشهور، وصاحب المقدمة، وكتاب العبر، وأول من ابتدع علم الاجتماع، وسماه العمارة، وتكونت صداقة وعلاقة بين عملاقين من عمالقة التاريخ والأدب والعلم، لكن كان الحذر يسودها، والمجاملة تغطيها نظراً لما يعتري المتعاصرين والمتماثلين في المكانة من منافسة في الغالب، ثم استأذن سلطانه العيش في مدينة سلا القريبة من الرباط، ولازم صوفياً مشهوراً اسمه ابن عاشر، وفيها توفيت زوجته فرثاها بعدد من القصائد، فكانت هذه المرحلة تبدلاً من حال إلى حال آخر، فقد فقد الوزارة والسلطان، وفقد الزوجة والحنان، والمال والأعوان، وبقي معه البيان، الذي خلده وأمتعنا بما فيه من حصيلة علمية شرعية وأدبية وشعرية وفلسفية وموسيقية وطبية غزيرة ورائعة.
يبدو أن بذرة نفسية نشأت في عقله الباطن، متأثرة بنظرة صوفية جعلته يطل على الحياة بمنظور آخر، غير ذلك الذي كان ينظر به من قبل، وبعد أن استدعاه محمد الغني بالله إلى الأندلس ليكون ذو الوزارتين و يتولى شؤون البلاد، كانت هذه البذرة قد بدأت بالنمو، آخذاً في الاعتبار ما حل بالبيت الغرناطي الملكي، فغير نمط إدارته السياسية للبلاد، فأصبح أكثر صرامة كما نجح في التأليف بين القلوب، لكن شدته الإدارية أوجدت له أعداءً كثيرين، وخصوماً بارزين، وعلى رأسهم تلميذان من تلاميذه المتقلبين في نعمته، وهما كاتب ديوانه ابن زمرك، وقاضي القضاة النباهي، فأخذا بالتحريض عليه وتشويه سمعته عند السلطان الذي شاح بوجهه عنه، فلمس ذلك ابن الخطيب، وأدرك نجاح الخصوم، وقد ساعد ذلك في انصرافه عن الدنيا والتوجه إلى التصوف، ودبر أمر هروبه إلى المغرب وتحقق له ذلك لكن وفاة السلطان المغربي وتغير القيادة، وما صاحب ذلك من أحداث، جعلته يدخل السجن، ويقتل فيه، ثم يدفن، ثم تخرج جثته وتحرق وتدفن، ولهذا سمي ذو الميتتين، كما أحرقت كتبه في غرناطه.