السلطة الناعمة التي يعبر بها الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات عن الواقع الذي يقيدهم هي سلطة غير تلك السلطات التي تكون حاكمة ومنظمة و مُسيّرة لشؤونهم! لأنها سلطة تعبيرية تجسد المشاكل الحياتية بصورة تمرر الفكرة بشكل ساخر أو تراجيدي.
الفن قوة ناعمة اليوم يفتقد لقوة تأثيره الكثير، فسلطة الإعلام هي السلطة الرابعة لا تملك ذلك التأثير الفني الذي يسري تأثيره وإيحائه باتجاه الهدف ليخترق أستار ممنوعة دون أن يلحظه حارس ،عند الجبهة بإمكان أغنية وطنية أن تلهب حماس الجنود وتقوض عزائمهم أو نشيد حماسي أو قصيدة تستحث الهمم، بإمكان لحن أو مشهد فني أن يستدر من العين دمعها، بل قدرته على استنهاض الروح وإيقاظها أجدى من غيره، كانت الدعاية في الحرب العالمية تشغل دورا في توجيه رأي المواطنين والخصوم، وقد جعل وزير التنوير والدعاية النازي غوبلز حينها كل الفنون في خدمة النازية وترسيخ عقيدتها وتحويل المعارضين لمؤيدين وحين تراجعت قوة ألمانيا في معركة ستالينجراد حوّل جوبلز الضعف والتراجع لقوة «بفن الدعاية» وتحويل مواجع الناس في الأذهان إلى انتصارات وتكرار الأكاذيب وتمريرها حتى تتحول لإيمان.
كيف لرواية أن تغير قانونا وهذا ما حدث مع دستويفسكي في رواية مذكرات من منزل الأموات تحكي مذكرات سجين منفي يعيش حياة السجن وآلام السجناء وقصصهم وبعد سنوات من صدورها كانت سببا في إلغاء العقوبات الجسدية المؤلمة وصدر قانون بإلغاء هذه العقوبات في روسيا عام 1863 وليس هذا إلا تعبيرا حقيقا لما أحدثته الرواية وهذا الفن في الناس حتى وصل صداه لأصحاب القرار.
ولا تغفل قوة الإعلام في تأثيره فهو من رحم الفن والكتابة التي هي أصابعه فن في إيصال الفكرة وبلاغتها مقياس لتأثيرها، إذ كانت السلطة التشريعية هي من تخلق القانون والسلطة القضائية هي ميزان بين من نقض القانون وتقيد به، والسلطة التنفيذية ما يحكم بالثواب والعقاب واقعاً، والسلطة الرابعة الصحفية أو الإعلامية هي من تنقد كافة السلطات وتبث هموم من يعانيها رأيًا لِتُقوِّم ما عدل ومال منها أو خفي عليها، فإن سلطة الفن هي السلطة الخامسة التي تصورها كافة وتكون هي روح المجتمع ولغته التي تعجز قوة السلطات على الالتماس من نعومتها في التأثير بلطف، سلطة أمضى وأحد من القوة ولو تأخر أثرها «فقطرة الماء تحفر في الصخر، ليس بالعنف و لكن بالتكرار» كما يُقال، وقدرة المرونة في روح الفن أعلى من غيره لأنه لا يقيد في زنزانة تحكمه، بل هو الذي يحكم الواقع بما يتصوره فيترجمه. وكانت ولا تزال سلطة الفن في رأيي دعامة وسند لسلطة الإعلام فهي مولودة في كنفه تستقي من معينه، وإني أشبه الفن بتلك الحسناء ما يحق لها لا يحق لغيرها على قول المثل «لأجل عينه تكرم مدينة»، وأن الكلمة وحدها أو مقالة قد تفهم على غير مظانها وإن توشحت بزخرف القول، ولكن الفن جمع من المحاسن والفضائل والأداوت التي يدافع ويهاجم ويحمي بها أحياناً ترفعه في موقع الرأس من الجسد فكانت كل تلك الأعضاء والأدوات ما جعلته جسداً جميلًا حسناً غير مشوّه.
** **
- عبدالعزيز سعيد المالكي
iAsoul@