وظّف جلال برجس في روايته «دفاتر الوراق» ثقافته النفسية والأدبية في بناء خطابه القصصي وفي تشفيره كذلك. الرواية صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في العام 2020، ونالت جائزة البوكر العربية للعام 2021، وهي جاءت بعد خمس روايات للكاتب منها سيدات الحواس الخمس، ورواية « أفاعي النار/ حكاية العاشق عليّ بن محمود القصاد» التي نالت جائزة كتارا للعام 2015. وله الكثير من الأعمال الشعرية منها «كأيّ غصن على شجر» عام 2008. تتوزع الرواية على سبعة فصول، عَنونَ الكاتب آخر عتبة داخلية لها «خيط بين الحقيقة والوهم» وعلى هذا الخيط الدقيق ستتبع قراءتي الرواية.
ربما يحقّ للقارئ بعد قراءة الرواية أن يفهم لماذا عدّ موريس بلانشو الكتابة عنفًا «بكلّ ما فيها من تصدع وحطام وتشظ وتمزق» فإبراهيم الوراق، الشخصية المحورية، يحيا هموم الإنسان المعاصر، وصراعاته اليومية والوجوديّة بتطرّف حادّ، ورغبة في السّقوط بكونه انعكاسًا للعجز عن الارتفاع، والهروب الباعث على الرعب وانبعاث غزيرة الموت كعودة إلى حالة ما قبل ظهور الحياة، التي هي حالة ما قبل الصّراع، ما قبل محاولة الإنسان تدمير ذاته.
نفهم من تردي حالة الوراق بعد أن يحرق كتبه، كيف يحول الإحباط الفرديّ مجتمعًا بأكمله إلى مجتمع عدوانيّ تتضارب فيه نزعات الأفراد وموانعُ الخارج، فتتحول إلى طاقة تدميريّة، تظهر في الرّواية بخلق شخصية وهمية تتحمل مسؤوليّة الأعمال التدميريّة التي قام بها الوراق، وتماهت مع الأعمال التدميرية الأخرى التي اقترفها من تماهت معهم شخصيّة الوراق، وقامت بما تمنوا أن يقوموا به، للتعبير عن اقتدارهم أمام مجتمع يصنفهم ويعريهم وينبذهم.
ربما تجيب الرّواية عن تساؤلنا: كيف تصبح الحياة هبوطًا مستمرًا نحو الموت بشكل طوعيّ؟ وكيف هو - أي الموت- موتان: موت أوّل غير مرئيّ، للروح وقد تاهت، وموت ثانٍ هو موت الجسد، وقد عجز عن تحقيق أيّ فعل ديناميّ أرادته الروح. وربما تطرح الرّواية التساؤل حول سمو فعل الانتحار لأنّه يكشف عن خدعة ضرورة الموت الطبيعيّ، بجعل الإنسان ينتظر، وسلبه القدرة أو الحق في إحداث رجعة إلى حالة ما قبل الصراع، أي جعله يصبر، وهنا يتمثل صراع آخر: سلب الإنسان السلطة، حقه في إحداث المستحيل في لحظة واحدة تعيده إلى ما قبل صراع الحياة، بحرية تجعله يصطدم مع الموت وكأنّه شخص آخر، وفي هذه اللحظة بالذات، روائيًا يختفي إبراهيم الوراق كشخصية ويتبدى في الجميع.
الراوي في «دفاتر الوراق» هو إبراهيم نفسه الشخصيّة المحوريّة، وهو صاحب دكان لبيع الكتب، يحيا بسلام مبدئيّ، إذ يكفيه ما يجني من الدكان، كي يرتب يومه بهدوء، حاله كحال الناس العاديين في مدينة عمّان. تتحول حياة إبراهيم، ويظهر الوحش القابع داخله، بعد أن يستولي ثريّ يدعى إياد نبيل على دكانه، ويسلبه قوت يومه، ليبني مكانه مولًا يبيع الهواتف النقالة. يتبدّى الوحش بصورة انتفاخ في البطن، يكلم الوراق، يوسوس له بفعل أشياء لا يوافق إبراهيم عليها في البداية، وحينما يشتدّ إلحاح الصّوت ولا يصدقه أحد بأنّه يعاني من وسواس يطلب منه القيام بأعمال تخريبيّة، يقرّر الوراق أن ينتحر، بعد أن يخسر آخر ملاذ له، بيته، فيجمع الكتب التي تبقت من الدكان مخاطبًا نفسه: «ما عاد لك بها حاجة إنهم يعلون من شأن القشور» ويحرقها أمام البيت، ثمّ يتوجه إلى العقبة كي ينتحر.
يتوه الوراق في المدينة بلا مأوى، تشتدّ عاصفة فيجد نفسه تحت جسر، وتجمعه الصدفة بليلى، فتاة هربت من الملجأ، ولبست ثياب الرّجال خوفًا من أن يعتدي أحدهم عليها. تمرض ليلى، فيشتري الوراق بما معه من ثمن بيع أثاث البيت لها دواءً، تطمئن له وتنام، وفي الصباح تكون العاصفة قد هدأت، فتصحبه إلى بيت مهجور، تسكنه ورفاقها المسرحون من الملجأ، تحكي ليلى قصتها لإبراهيم، فهي بلا أم ولا أب، عاشت في الملجأ سنوات من العذاب، كانت تغتصبها إحدى المشرفات تدعى رناد محمود.
تتوالى مراسلات إبراهيم الوراق مع طبيبه النفسيّ، يوسف، الذي يجد في إبراهيم وحكاية البطن المنتفخة مثارًا لحكايته هو، إبراهيم يشكو من كوابيس تتعلق بانتحار والده، والطبيب لا والد له، ورغم أنّ الكاتب يغيب وعي إبراهيم عن تلك المراسلات، كي يمهد لظهور الوحش واستبداه بالشخصية، إلّا أنّ إبراهيم يبدي وعيًا متقدًا وهو يبحث عن السيدة نون، امرأة يلتقيها صدفة عند البحر، تريد الانتحار مثله، ويثنيها شيء عنه، فتنسى دفتر يومياتها، ويكون ذلك الحدث بداية حبّ يعصف بإبراهيم ويجعله يبحث عنها، مدركًا أنّ الحبّ أعاده إلى الحياة في الوقت الذي قرّر فيه الاستسلام للموت.
يعود الوراق إلى عمّان، يفتش عن السيدة نون، التي نعرف فيما بعد أنّها ناردا، صحافية، عملت زمنًا نادلة في مقهى، وكتبت قصّتها في المفكرة، أحبت رجلًا كان يقصد المقهى ليكتب، تزوجا، ثمّ تغيّر وصار يبث سمّ ماضيه عليها، يضربها ويبتعد وتبقى تحبه، إلى أن جاء يوم وطلبت منه أن يطلقها، طلقها وغاب، لتعرف فيما بعد أنّه انتحر، فلا تتحمل وتقرر أن تنتحر كي ترتاح فتقصد البحر، وهكذا تتعرف إلى إبراهيم صدفة، فيحبها، ويبحث عنها وحين يجدها، يكون قد تحول إلى اللص الشريف، إذ انصاع إلى طلبات الصوت، وراح يسرق البنوك وبيوت الموسرين، ولقبه الناس في المدينة بالمقنع، وتناقلوا أخباره حتى بات بطلًا.
بالعودة إلى ليلى، تجد عملًا عند امرأة مسنة، وتنتقل من البيت المهجور، حيث وارى إبراهيم ما سرقه من أموال بنية أن يساعد قاطني البيت من الأيتام. امتثالًا لرغبة الصّوت بسرقة بيت السيدة إيميلي حيث تعمل ليلى التي وجدت فيه صورة الأب الحنون. يقصد الوراق البيت متقمصًا شخصية جديدة من شخصيات الروايات التي كان يقرأها في دكانه، هذه المرة شخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ، بعد أن تقمص في سرقاته السابقة شخصيات دكتور زيفاكو وكوازيمودو اللذين ما إن ظهرا حتى مات إياد نبيل ورناد محمود فجأة.
كانت ليلى نائمة حين دخل إبراهيم البيت. ليلى التي التقاها عند الجسر، وجاء ليسرق بيت السيدة إيميلي الثرية التي أحبتها، والتي حين خرجت عن صمتها، أخبرتها قصّتها، فعرفت أنّها كانت تدرس في روسيا، وأحبت رجلًا، خلا بها بعد أن حبلت منه، والتي واجهته بفعلته ولكنه أنكر ولم يعترف بالدكتور يوسف ابنًا شرعيًا له، فتتحول السيدة إلى صمتها سنين طويلة، وفي تلك الليلة التي يقرر إبراهيم أن تكون ليلة السرقة الأخيرة، ومن شدة توترها وخوفها إذ واجهت المقنع، تميط لثامه فتجد نفسها تعرفه، وحين يسألها المحقق عنه تقول إنه إبراهيم الوراق. يهرب إبراهيم فيجد ملاذًا له في بيت ناردا، وهناك يعرف أنّها طليقة والده، الذي انتحر، والذي اتهمه الصّوت بأنّه قد قتله إذ ركل الكرسي حين وجده معلقًا نفسه في المطبخ.
ليس هناك صدفة، كل شيء في الحياة مرسوم بقدر، وهكذا أراد جلال برجس أن تكون روايته، محبوكة بإتقان مدهش، يخلط الظروف والأزمنة، وتتقاطع فيها الشخوص والحكايات، لتجتمع جميعها في مصير واحد، وكأنما هي في الأصل حكاية واحدة يحياها الجميع، ويلخصها هذيان الوراق أو صوت رفضه الذي يتعربش المشهد إذ يعرف بهدم البيت المهجور، فيتقافز أمام الكاميرات ويظهر أخيرًا، ليوضع إبراهيم الوراق بعدها في المصحّ العقليّ.
يضمن جلال برجس حكاية إبراهيم الوراق حكايات مزامنة، ترميزًا وتكثيفًا، ويطرح قضايا الإنسان المعاصر، والعربي بخاصّة، بداية من الفقد والرحيل عن البيت، إلى ألم العلاقات المضطربة مع الأب، إلى وجع الغربة، وكبت الفقر، وعبثية الحب، وسطحية التعلق وتشرذم المصائر إذ تعبث بها الأهواء ويسيرها الفساد واستفحال النفوذ والسلطة. ويعري النفس الإنسانية إذ تنقاد للطاقات الدونية وتعلق هناك، يقول الصوت لإبراهيم وهو يسوغ له السرقة: «اللص يختبئ في عقول الجميع» ويرى الخلاص في الاحتكام إلى العقل» ليس هناك شيء غير العقل له أن يفهم الحياة».
بين الماضي المتمثل بوالده الأكاديمي الذي انتحر، والمستقبل الذي تمثله ناردا، الصحفية التي عادت من الانتحار إذ رأت سفينة تعود إلى الشاطئ، وسلمته دفتر والده فعرف كم كان يحبه واندمل جرح الترك فيه، يقف الوراق بين شعور بالذنب وقد تبدى في أكثر من شخصية إيميلي، والشعور بالدونية وقد تبدى في ليلى، والغرور وقد تبدى في إياد نبيل، وكلها أوجه متعددة للنفس البشرية وقد تشظت بفعل الترك والحرمان والتهجير والخيانة والفقد المرير والعجز والجهل وسلبها الاقتدار في مجتمع متآكل، ومدن صاخبة يلقي بأنفسهم أبناؤها من فوق جسور معلقة كان الأجدر بها أن تعبر بهم إلى البيوت لا إلى الموت من وجع الحياة.
للموسيقى دور في النقر على أوتار التشويق في الرواية، ففي بيت إيميلي التي فقدت صوتها ولاذت بالصمت الطويل نسمع طرقات مقطوعة «الدانوب الأزرق» التي وضعها شتراوس الابن، ربما الإيقاع الجدي للمقطوعة رفع وتيرة الأحداث حتى بلغت ذروتها في إفصاح ليلى عن اللص، وهي التي صمتت طويلًا عن التحرش، ومعرفو علاقة الأزرق بالقدرة على التعبير إذ هو لون شاكرا الحلق المرتبطة بقدرة الناس على التعبير ببلاغة.
تختفي الفروق في الرواية، تختلط فلا فرق بين اللون والظل، المرأة والرجل، الصورة والخيال، الوهم والحقيقة، لذلك فلا عجب أن يكون الراوي الذي هو إبراهيم حاضرًا في الجميع وهم يروون حكاياتهم، ولا عجب وهو المجنون كما تنتهي الرواية أن يمسك بالسرد بوعي متقد، فلا فرق بين الجنون والعقل حين تحكي الروح.
قد لا تجيبنا الرواية عن سؤالنا: من ينقذنا من الموت ومن الجنون؟ قد لا تحررنا من ذنوبنا وقد لا تعيدنا إلى براءتنا الأولى، لكنها تحكي حكاية كلّ واحد فينا، وتجدلنا كأنّنا واحد يمشي نحو موته أو حياته لا فرق. وما اعتراف إبراهيم بأن دفاتره التي لم يقرأها علينا ولم يحرقها ربما تتضمن ما يبرئه من تهم القتل التي نسبت إليه واعترف بها طوعًا، وفي الحقيقة أو ربما في العمق قام بها ليلى وإيميلي ويوسف. فما الذي يفصل بين الحقيقة والوهم؟ بين الأنا والآخر وإلى أين سنعبر بحرية يومًا ما؟