سهام القحطاني
أغَرَّكِ مِنِّي أنَّ حُبَّكِ قَاتِلِي
وأنك مهما تأمري القلبَ يفعلِ
-امرؤ القيس-
شاع مؤخرا «مصطلح التوكسيك» في علاقة الثنائيات العاطفية، ويقصد بها «الحب المؤلم» و هو حاصل طبيعة طرف من طرفي الثنائية العاطفية، وهو ما يحوّل الطرف الآخر إلى ضحية، وهذا المسار العاطفي السام للعلاقة الثنائية مبني على الاستمتاع بأذية الطرف الآخر.
ولو عدنا إلى بعض حكايات الحب في الشعر سنجد أن مسارها يتشابه كثيرا مع مسار علاقة «التوكسيك» حكايات الحب السادية.
تتحرك حكايات الحب في التاريخ العربي وخاصة الشعر في ذات القالب الدرامي غالبا؛ وقد نرجِع هذا الأمر إلى سلطة المنهجية التي هيمنت على القصيدة العربية الكلاسيكية حتى العصر الحديث.
لذا لا نستغرب ربط أحمد شوقي في نهج البردة الحب بعلاقة الألم ‘هذا الألم الذي تستلذ به محبوبته، ليحولها إلى قاتلة تستحل دمه وتضرب بالرمزيات القدسية عرض الحائط في سبيل تحقيق ساديتها.
ريم على القاع بين البان والعلم
أحلّ سفك دميّ في الأشهر الحرمِ
«فالمحبوبة» في بعض حكايات الحب الشعرية هي التي تمثل رمزية «التوكسيك» في الثنائية العاطفية، فهي مصدر ألم المحبوب، ليُصبح في المقابل هو «الضحية».
ولو عدنا إلى ما قبل شوقي سنكتشف أن أوضح علاقة «توكسيك» في الشعر تتجلى من خلال حوار أبي فراس الحمداني مع محبوبته التي صورها في أبشع صور النرجسية و السادية، في قصيدته أراك عصي الدمع.
وما كان للأحزان لولاك مسلك
إلى القلب لكن الهوى للبِلى جسر
وقصة سادية ونرجسية محبوبة أبي فراس الحمداني، هي ذاتها أول قصة حب في الشعر العربي قصة امرئ القيس مع محبوبته النرجسية السادية التي تستلذ بتعذيب حبيبها.
وفي العصر الحديث يبرز اسم نزار قباني التي لم تخل بعض غرامياته الشعرية من علاقة التوكسيك مثل قصيدته الشهيرة
«علمني حبك أن أحزن».
وفكرة سادية المحبوبة ونرجسيتها مقابل تحول المحبوب «الرجل» إلى ضحية، هي فكرة لا تتوافق مع نرجسية الخطاب الذكوري للشاعر العربي عبر العصور الأدبية.
وهذا خروج على أصول الخطاب الذكوري الشعري،ولكن قبل توضيح دلالة هذا الخروج،علينا أن نقف عند بعض أعراف حكايات الحب في الشعر.
إن فكرة الألم التي صاحبت حكايات الحب الشعرية كما قلت سابقا هي جزء من الإطار الدرامي للقصيدة العربية التي تُحاكي واقعية المجتمع في ذلك الوقت ويمكن أن نحدد له إطارين أولهما: الطبقية والمكان.
فالطبقية أوجدت في ذلك العصر قانون «تكافؤ النسب» فممنوع على العبد أن يعشق حرّة أو الفقير أن يعشق الغنية، وإن حدث ذلك فالعقاب المقرر هو «الحرمان».
والإطار الآخر هو «طبيعة المكان» فالانتقال من مكان إلى مكان للبحث عن المراعي كان يُفرق بين الأحبة، وهذه الطبيعة كان لها البطولة في مشاعر الألم.
أما بالنسبة لحضور المرأة في حكايات الحب فكان رمزيا،صوتا غائبا يقوده المحبوب،وهذه الرمزية و النيابة في قيادة الصوت كان تمثيلا لواقع المرأة في العموم في تلك الحقبة،وهذا الغياب وفق الواقع انتقل إلى الشعر من خلال «ظل الأسماء».
وبالعودة إلى حكايات الحب السامة عند كل من امرئ القيس وأبي فراس الحمداني و نزارقباني، سنجد أن كل شاعر من هؤلاء الشعراء تنطوي خلفيته على سبب قفز به هذه القفزة للخروج على أصول الخطاب الذكوري للشعر.
كانت شخصية امرئ القيس شخصية غير نمطية متمردة، جامحة،هذا الجموح هو الذي جعله يقدم صورة المحبوبة في زي المرأة اللعوب السادية التي تستلذ بتعذيبه.
عاش أبو فراس الحمداني في حقبة زمنية اختلفت فيها صورة المرأة، وهذا الاختلاف غيّر التكوين الفكري للمرأة فلم تعد تلك المغلوبة على أمرها بل أصبحت تملك صوتا و ضوءا،ولعل أبا فراس استمد من هذا الجو صورة محبوبته النرجسية السادية، أو لعله عاصرها أثناء أسره في بلاد الروم.
أما نزار قباني فقد حاول أن يستثمر سطوة النسوية العربية، ليٌعززها من خلال تغير جلد الحبيبة من المرأة المسكونة باللطف والاستسلام إلى الحبيبة القاسية السادية الخائنة النرجسية.
إن الحب علاقة تكافؤ وجداني بين طرفين، وأي اختلال في كفتي ذلك التكافؤ يحول العلاقة إلى صوت وصورة من الجحيم.