حامد أحمد الشريف
تأمّلات في قصّة «حسرة»
وقف أمام واجهة المكتبة، يتأمّل بحرقة، كتابه الذي تحوّل لمعطف!
محمد المطرفي
باعتقادي، إنّ الخوض في هذا النصّ الإبداعيّ ينطلق من عتبة العنوان الذي استخدم له الكاتب مفردة «الحسرة»؛ وكان في النصّ ما يشير بإيجاز شديد إلى حكاية شخص يقف أمام واجهة إحدى المكتبات متحسِّرًا على قرارٍ اتّخذه فأحال كتابه إلى معطف.
نتساءل: كيف يتحوّل الكتاب إلى معطف؟! ولِمَ يُعرض في مكتبة ولم يُنقل إلى متجر لبيع الملابس الجاهزة؟! هذا إذا كان تحوُّله إلى معطف حقيقيًّا وليس مجازيًّا.
ولعلّنا، قبل الخوض في هذه الاستفهامات المهمّة، نحاول - بداية - فهم الحكاية فهمًا عميقًا يتجاوز مظهرها السطحيّ المباشر، ويأخذ بأيدينا إلى عمقها الدلاليّ الذي يشير - في ما يبدو - إلى رجل فقير مبدع، ولكنّه يجهل ذلك في نفسه، أو أنّ الفاقة أجبرته على خيانة قلمه والمتاجرة به؛ وهو ما يقودنا إلى الإجابة عن تلكم الاستفهامات، وبالتالي فهم آليّة تحوُّل الكتاب إلى معطف - مجازيًّا - بسبب التنازل عن مخطوطة ما، ومَنْحها لشخص آخر نشرَ الكتاب باسمه، مقابل معطفٍ، أو نقده ثمن هذا المعطف. وهو ما يفسِّر أيضًا سبب استمرار عرضه في المكتبة، فهو لا يزال كتابًا إذا ما نظرنا إليه من الناحية المادّيّة المحسوسة التي يراها الجميع، في حين بدا في نظرة صاحبه الحزينة، من الجانب الحسّي والشعوري، مجرّد معطف، ولن تتغيّر صورته تلك ما امتدّ به العمر.
وهؤلاء المبدعون الفقراء، كما هو معلوم، موجودون - للأسف - في كلّ المجتمعات، يستغلّهم ضعاف النفوس، عديمو الأخلاق، الذين يشترون نتاجهم الإبداعيّ، وينسبوه إلى أنفسهم، لكونهم مقتدرين مادّيًّا. لذلك، لم تكتمل فرحة الرجل الفقير بتدوين كتاب قيّم، إذ أجبرته الحاجة الملحّة على التنازل عنه، ليجد طريقه للنشر ويُعرض على أرفف المكتبات أو واجهاتها الزجاجيّة... فكان عرضه على ذلك النحو المعظِّم لشأنه، وبالًا على صاحبه الحقيقيّ الذي أصبح يستعيد في كلّ مرة حكاية تحوّله إلى معطف، ويتحسّر على صنيعه به وبنفسه.
ولعلّ المفارقة هنا التي أظنّها منحت النصّ قيمته الإبداعيّة، هي أنّ المبلغ المدفوع للتنازل عن المخطوطة كان زهيدًا جدًّا، لا يوازى قيمتها الحقيقيّة، ما استلزم تلك النظرة المتألّمة التي أعادتنا إلى العنوان الذي لفتنا مبكّرًا، وإلى الحسرة الشديدة على اتّخاذ قرار لم يكن صائبًا، اختصره بتلك العبارة الذكيّة التي أوردها النصّ قائلًا: «يتأمّل بحرقة».
وهو ما يجعلنا نسأل:كيف للفقير أن يتحسّر على قرار لم يكن يملك غيره؟!
هذا السؤال المهمّ والمحوريّ يجعلنا ندرك أنّ قيمة هذه الحكاية يمكن حصرها في دهشة النهاية، تلك المفارقة التي خلقت لنا ذروة الصراع، وأنهته في التوقيت ذاته، وجعلت منه نقطة التبئير الوحيدة التي اختزلت لنا بعمقها المثري الحكاية كلّها حول هذا التنازل وأسبابه، طالبة منّا التوقّف والتمعّن والفهم الحقيقي لأبعاده، ولا سيّما أنّنا نعلم أنّ الفقير المعدم عادة لا يتحسّر على تنازلاته، وغالبًا لا يتذكّرها ولا يتوقّف عندها مطلقًا؛ فالحياة لا تمنحه هذه الفرصة وهذا البذخ لالتقاط أنفاسه والعودة للتفكير في مجرياتها السابقة، لكونه يعيش الحياة في كَبَدٍ ومغالبة، وصراع حقيقي من أجل البقاء، وليس لديه وقت ينفقه في مواقف مترفة كهذه؛ بل إنّه جُبِل على عدم العودة إلى الماضي، بحلوه ومرّه، فاللحظة الدامية التي يعيشها على الدوام كانت تستغرقه تمامًا. وإذا ما علمنا أنّه غالبًا ما يكون مدفوعًا إلى مثل هذه التنازلات بسبب الفاقة والحاجة الشديدة التي أكّدها النصّ من خلال إشارته الذكيّة إلى أنّ الثمن المقبوض كان بخسًا، فإنّنا نتأكّد يقينًا أنّ التنازل لم يكن اختياريًّا وإنّما قسريًّا، وهو ما يقودنا إلى شيء من الاستغراب والتعجُّب، فطالما أنّ الحسرة - كما هو معلوم - ترتبط عادة بامتلاك القرار والقدرة على اتّخاذه دون ضغط وإملاء، فما الذي أتى بها هنا، والرجل - كما هو ظاهر في النصّ - فقير جدًّا؟! (بدليل أنّه لم يحصد من تنازله غير معطف من الصوف).
إن هذه الإشارة الواضحة - في ظنّي - هي مفتاح هذا النصّ الذي سيأخذ بأيدينا إلى الفهم الصحيح للحكاية التي تشير - في ما يبدو - إلى أنّ الفقير لم يكن بالفعل مجبرًا، وإنّما مخيّرًا، إذا ما نظرنا إلى المشهد المسرود من زاوية أخرى تتعلّق بقيمة هذا التنازل، وابتعدنا عن التنازل نفسه الذي لم يعد يمثِّل شيئًا ذا قيمة لهذا الرجل، بعد اعتياده عليه وممارسته له في كلّ وقت، بسبب وبدون سبب. وإنّما جوهر الصراع السرديّ الذي أراده المؤلِّف، يكمن في عدم تقدير قيمة السلعة المتنازَل عنها؛ فالكتاب بالنسبة لكاتبه هو بمثابة فلذة كبده، يُقتل إذا تخلّى عنه؛ لذا، لا يُقدم على هذه الفعلة - مهما كا ن الثمن - إلّا طامع جشع يفتقر للقيم، أو مجبَرٌ أحنى قامته الجوع والعوَز. ومن يتأمّل في سياق الحكاية المسرودة، يدرك تمامًا أنّ الفقير هو بغيتنا، وهذا تختلف نظرته وتقييمه للموقف، فنجده يأخذ البعد المادّي الذي يعدّ قاتله، ولا أظنّه يلتفت إلى البعد المعنوي الذي لم يعد له وجود في قاموسه؛ وفي هذه الحالة، أمثاله قد يتخلّون عن أبنائهم الذين هم من أصلابهم، ولا يتحسّرون على فعلهم هذا، لعدم توفّر الخيار أمامهم، رغم الغصّة والألم اللّذين سيرافقانهم طوال حياتهم.
ذلك يقودنا إلى الفهم الصحيح للموقف، الذي غالبًا ما تكون أسبابه مادّيّة، إذ ظهرت الحسرة التي تعدّ دخيلة على سلوكيّات الفقير، وربّما لم يسمع بها من قبل، فكان حضورها اللّافت بسبب ارتباطها بقرار اختياريّ أقدم عليه الرجل عند تقديمه تنازلًا بلا ثمن، في وقت كان بإمكانه الحصول على مبلغ أكبر بكثير لو تريّث قليلًا وعرف قيمة هذا التنازل؛ فمن يقبض الثمن معطفًا، لا يُعقل أن يعتبر الكتاب كأحد أبنائه ويتحسّر على صنيعه به. ولعلّي هنا أرجّح هذا التحليل لكون المقابل الذي أخذه الرجل لا يمثّل فعليًّا أيّ قيمة إلّا للفقير المعدم، إذ انشغل بالبحث عمّا يستر جسده ويقيه من الزمهرير، ولم يلتفت إلى قيمة بضاعته وإمكانيّة المساومة عليها؛ فإذا بوقفته تلك تعكس تحسّره وندمه على استعجاله وعدم تقديره لقيمة مخطوطته، بعد تفاجئه - في ما يبدو - من المكانة التي وصلت إليها. وأظنّه وقد وقع في أسر تلك المشاعر تمنى لو أنّه أدرك ذلك في حينه، فساوم لرفع المبلغ، أو بحث عن مشترٍ آخر يمنحه سعرًا أفضل، وربّما كان اغتنى من ذلك الكتاب!
ولا ينبغي أن نغفل في قراءتنا لهذا المشهد البسيط، أنّ الحسرة التي صوّرها لنا ليس لها علاقة بفقر الرجل بشكل مباشر، رغم أنّ الفقر كان دافعًا له لتقديم هذا التنازل، ولاسيّما أنّ الفقر يدفع الفقير غالبًا لاتّخاذ الكثير من القرارات الخاطئة، إلّا أنّه لا يتحسّر مطلقًا لكونه كان مجبرًا، إذ لا سبيل للحسرة على قرارات لا نملك غيرها (كالتوقيع على إجراء عمليّة جراحيّة نسبة نجاجها 10% أو أدنى من ذلك، تحاشيًا للوفاة المرتقَبة)، في وقت ترتبط الحسرة عادة بتعدّد الخيارات. ولو كان الأمر مرتبطًا بفقره، كما يعتقد بعضهم، لكانت ردّة فعله محصورة في الألم الذي يعتصر قلبه، وهو يرتبط عادة بقسوة الحياة ونيلها منه، وعدم قدرته على مواجهتها. وهو ما يكون عادة من الفقير عندما يرى نتاج قراراته القاتلة، فلا يملك الإقلاع عنها، ويغلبه ذلك الإحساس الموجع بالضنك في كلّ مرّة يتنازل عن شيء من ممتلكاته المادّيّة أو المعنويّة، وفي ذلك ما يشير إلى إبداع المؤلِّف في انتقاء المفردة التي تعبّر بدقّة عن المعنى المراد، ويعدّ ذلك من أهمّ عناصر القصّة القصيرة جدًّا التي لا يمكن التهاون في اختيار مفرداتها وعنوانها وبدايتها ونهايتها، والقدرة على خلق الصراع من عدد قليل من المفردات في المساحة الضيّقة التي عادة ما تحتوي كامل المشهد بمكوّناته الزمانيّة والمكانيّة. ولن تنجح القصّة القصيرة جدًّا إن لم نوفّق في ذلك كلّه من دون استثناء، وهو ما أظهره هذا النصّ الإبداعيّ الذي وضع كلّ كلمة في مكانها، حتّى استطاع إيصال فكرته ورسالتها القيّمة، بهذا القدر من الاختزال والتكثيف المبهر.
وبالعودة لمغزى الحكاية والرسالة التي تحملها، أجد أنّها - على الأرجح - لن تخرج عن هذا الإطار الذي ذكرته؛ فمن المعلوم أنّ الأقلام تباع شعرًا ونثرًا، والإبداع بكافّة صوره وأشكاله يعدّ سلعة رائجة لها بائعها وشاريها، خاصّة في زمننا، حيث نشهد شراهة الحضور الإعلامي، والاقتتال الحاصل من أجله من قِبَل مَن لا يملكون ما يميّزهم ويعلي من شأنهم غير المال، وسِيلتهم الأيسر للسطو على إبداعات الآخرين. أراد المؤلِّف إيقافنا على هذا النوع من الاستغلال الرخيص للمبدعين الفقراء، والاستيلاء على إبداعاتهم بدراهم معدودة، فلا يبقى لهم سوى الحسرة يتجرّعونها كلّما رأوا كتاباتهم تنتشر وتبلغ الآفاق، ولكن بأسماء غيرهم.
في النهاية، هذا النصّ الإبداعي ذو الومضة القصصيّة السريعة، اختزل الفكرة العميقة ببضع كلمات، وأوصل لنا رسالة تتلخّص في أنّ الحسرة الحقيقيّة لا تكون على تنازلاتنا التي قد نجبر عليها لأيّ سبب كان، وإنّما على تدنّي قيمة هذه التنازلات، في حين أنّه كان بإمكاننا التفاوض حولها، وربّما تكون آخر التنازلات التي نقع فيها متى ما عرفنا قيمتها الحقيقيّة. وهو ما فعله الكاتب والروائي الكولمبي الشهير «غابريل غارسيا ماركيز»، عندما اضطرّ لإرسال نصف روايته العظيمة «مئة عام من العزلة» إلى أحد دور النشر، وكان وقتها فقيرًا معدمًا لا يمتلك أجرة إرساليّة البريد كاملة، ما اضطرّه، بمباركة من زوجته «ميرثيديس بارشا»، لرهن بعض الأدوات المنزليّة، استيفاءً لباقي المبلغ، وإرسال الجزء المقتطع من الرواية في زيارة أخرى إلى مكتب البر يد؛ فهما، رغم فقرهما، كانا يعرفان جيّدًا قيمة الأوراق المحبّرة التي بين أيديهما.
لقد كانت هذه الحادثة التاريخيّة طاقة القدر التي انفتحت لهما، وخلّدت اسميهما، وأغنتهما مادّيًّا بعد ذلك. وهذا يعني أنّنا نحتاج أولًا لمعرفة قيمة الأشياء التي نمتلكها، سواء أكانت مادّيّة أو معنويّة، ونجازف باتّخاذ القرار المناسب الذي قد يفوق طاقتنا واحتمالنا، وقد يؤلمنا في حينه. فذلك وحده قد يقينا مغبّة الوقوع في قرارات قد نتحسّر عليها مستقبلًا، ويتساوى أمامها الفقير والغني.