د. شاهر النهاري
حياتنا الحالية فقدت الخصوصية والهدوء القديم، وأصيبت بهجمات جراد وجنادب الشتات، حتى في عمق بعدنا وهدوئنا، عالم أصبحت رسائله المصورة والمنقوشة بالحروف تصلنا بشكل آني ملح متكرر ولو كنا خلف حصون مشيدة، سواء من أشخاص يختاروننا ليبلغونا بما يفكرون فيه، وما يختارونه لنا من معلومات، ووعظ، ومشاركات ومزاح ورتوش علاقات مشوشة تبنى على الشاشات، أو من خلال مجموعات انضممنا إليها برغبتنا أو عن طريق مجاملة أو كنوع من الفضول يكاد يقتل قططنا.
قليلون من نتفاعل مع رسائلهم بما تشكله من اهتماماتنا النفسية، وكثيرون تمر رسائلهم بسرعة الحذف، حسب مواقع وأبراج وأودية وحفر حمم بركانية وضعناهم فيها.
الكثير منا يقرأون معظم ما يصلهم من رسائل، والكثير يمرون عليها مرور الكرام، والبعض يحاول تأطيرها بالجمود وعدم الاهتمام، والبعض يجدها لعبته اليومية، ينبش فيها كالدجاج، ويستخرج الدود، والبعض يجعلها مجال تنفيس عن ذاته، وربما يتمتع بأن يتعرف أكثر على شخوص أصحابها، وربما يكسبهم، أو يفقدهم بسوء الاستخدام، والتسرع في الردود، وإطلاق رصاصات الأحكام، ومحاولة إحراج أحدهم، أو تصنيفه أمام نفسه والآخرين، وإثبات أنه يختلف عما يظهر عليه.
البعض يرد باهتمام وتواضع، والبعض يتجاهل، والبعض يجامل، والبعض محرج يدعي، وربما يرسل للعسل عسلاً، أو يفسد للطنين قضية، والبعض يتحمل اللدغة ويهرش مكانها، والبعض يقتل سبع نحلات بضربة واحدة.
ردود أفعالنا حيال ما يصلنا من رسائل ليست إلا براويز عاج نضع أنفسنا وسطها، متلبسين بقناعة وتَقَنُع وفقد لجاذبية الزوايا، وقد نجد الآخرين حشرونا وسطها، العين في القدم، والأذن في البطن، والبعض يخرجنا من كل البراويز ليقوم بتنظيفها، أو تكسيرها، والبراويز مجالات ومساحات نتحرك أو نتجمد فيها، نتذكر الماضي، وربما نسكنها لنفث الغضب، أو صنع مقدمات تسبق السقطات وفقد صديق أو تأليب عدو مستتر.
عقولنا منظومات مركبة بأصابع تطول وتنتقي، وربما ترى أخطاء الغير وتضخمها، وربما لا تعود ترى خروقها الذاتية، التي يفهمها كل شخص بتلمس أنامل عقليته.
وربما تُظهر للآخر عقدنا النفسية، أو محاولاتنا بتنظير لفهم الآخرين، أو التمادي في فرز وإظهار عيوبهم، أو رسم تعدد شخصيات تسكننا، وهذا مجال ينتقل بنا للظنون والفرضيات والقيل والقال، وتنميط الآخرين، ولو في رسالة سرية نبعثها بوجوه تعبيرات «إيموجية» لوسيط شامت.
الرسائل تتقاطر في مساراتها بسطحية، أو ضمن قطرات ألوان اللوحة، وتجشم الأهمية، وتطورات وشيوع روتينية، حتى أن الكثيرين لم يعودوا يسألون: لماذا لم ترد على رسائلنا؟
ملامح العقول والشخوص حولنا يختلفون، والبعض تجد رسائله متطابقة مع ذاته، التي نعرفها، وجيناته ومرئياته ومعتقداته وعاداته، التي لم يشترِها، والبعض يتقمص بريق الصور الجميلة والمؤدبة والحريصة الوفية والباقية على فلاتر تراث الماضي، والبعض يتمرد شخصه الحالي على شخصه قبل دقائق، ومنهم من ينزع ضباب الأمس عن عينيه، ويرتدي ما يستسيغه أثناء سيره في شوارع التواصل الحالي، وحتى ولو كان بدون هدوم.
البعض يرسل الرسائل الدينية والنصح والحكمة والإرشاد، ومعاريض الندم وطلب الصفح عن زلاته والدعاء لذاته ومرضاه وأمواته، بنية طيبة تشعرك بأنه يحتضر، والبعض يفعل ذلك بتدخلات وإشارات وبأنه أصبح ناضجاً يعرف ويتعمق ويتفقه، والبعض يرسلها وكأنه يريد أن يعطي دروساً للجميع حتى ولو كانوا أكثر ثقافة ومعرفة عنه، ولكنه يرسم في أعينهم الرزين الحكيم، والمتدين، ولو متأخراً، مع أنك تعرف أنه ليس كذلك لو قارنت رسائله اليوم ببعض رسائله الخاصة، التي ما زالت روائح مجونها تنتشر في الصفحة، والبعض يضع نفسه محطة لإعادة النشر، لكل ما هو ديني، حتى ولو كان لم يقرأه بنفسه، فالمهم أنه ديني.
بعض الرسائل تجعل العاقل يتساءل، ويقرأ ما خلف الصور، وخصوصاً لو كان يعرف الشخص المرسل من جوانب أكيدة، ويدرك مقدار معرفته، وتوجهاته، وقد يجد أو لا يجد علاقة بينه وبين ما يرسل وينشر، ويتخيل الفرق، ويستقرئ نفسيات الآخرين ممن تصلهم نفس الرسائل، وما يحدث من تقبل أو نقد لطنين دبور أرسلها؟
البعض تخطفه المقاطع السخيفة، والمضحكة، فيرسلها لمجموعات صامتة، وهو لا يدري أن ذلك يعرضه للنقد، ولو على الصامت.
البعض يرسل رسالة وينبه لوجود موسيقى فيها، وربما يرسل بالغد أغنية، وربما رقصة سخيفة، والمتابعون يعجزون عن معرفة مرساة عمقه، وهل هو ضد الفن، أم أنه يجاري الظروف والمتواجدين بالمجموعة، أو أنه في طور تعديل قناعات وخضم إخراج ما بنفسه مما كان مختبئاً.
البعض يرسل معلومات ومقاطع علمية وفلسفية رغبة في نشر الوعي، وربما بلغات أجنبية، والبعض ممن يعرفونه، ربما يدركون أنه أبعد ما يكون عن ذلك، ولكنه يريد إظهار درجات بلوغ الترقي، وحوز الأسس الفكرية، ولو بمقاطع لا زالت عصافيرها تدور فوق رأسه الدائخ.
البعض يضن بالرسالة، ولو على الخاص، إما متعالٍ على ما يقال في المجموعة، أو لأنه لا يريد إزعاج أحدٍ، أو أنه يدرك خطورة وحساسية ردود أفعال الآخرين، أو أنه يقول للنحلة: لا أريد عسلك، ولا تقرصينِ.
الرسائل السخيفة عن العلاقات الزوجية وقيمة المرأة أو الرجل، وصورها الهزلية والغبية والخارجة والمختلة، والمبنية على عدم احترام مفاهيم الأسرة، كثيرة، ولكنها عند الحرج تهرب ممتطية ظهر حمار التسلية والمزاح الأعرج.
الرسائل الخارجة عن النسق المؤدب، تحضر على الخاص بأضواء وردية، وهي مجرد جس نبض، فإن ضحك المتلقي، أو علق بالاستحسان، أصبح صندوقه مسرح تعرٍّ وتفسخ وقبح وانتهاك لخصوصية الجسد والعلاقات الحميمة، وإن صدها، جاءه الاعتذار بأنها اختراق أو مُرِرت بالخطأ.
لا شك أن كل منا يمر غرابه وبلبله فوق عوالم تلك الرسائل، وحسب ما يمتلكه في جوفه من أخلاق، ومن تطلعات، ومن رغبات للظهور، أو الاختباء خلفها، أو الضحك من قلب، أو من كبد دامِ مصاب بالتليف، وكل الحكاية تبدأ من الأنا، وتدور في نفس الشخص المقابل، وتعتصر أنفس المشتركين في مواجهة الرسالة، ليبرز بعدها شيء، وتموت أشياء، ويثبت جراثيم وبعوضة، وينفى عن النفس المبيد.
الرسائل هي طبيبنا النفسي، نستطيع فوق كرسيه المائل البوح والاقتناع والتفهم لما نراه وما نشعر به ونتخيله، وما نتبحر فيه من تلك الرسائل، التي تعطينا الفرص لنعرف من نحن، وكم من العقد النفسية نمتلك، وكم من الحيل نتقن، وكم من الصور تكذب بين براويز أعيننا، التي نصدقها ونكذبها ونحرفها، وكم نظهر بها على أشكال مختلفة، لا تخلق التطابق بيننا وبينها، ولعل الحصيف منا أن يتفهم ويدرك، وأن يعتبر، بلِمَا وماذا؟