د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
يتراءى لي أنَّ التشبيه تنازعه في البلاغة مذهبان؛ مذهب المتكلمين ومذهب الأدباء، وهذا مفهومٌ من إشارة أبي هلال العسكريّ لذلك في كتابه الصناعتين، وليس وراء كلامه لدارسٍ مذهبُ.
وإشارةُ عبد القاهر الجرجاني أنّ التشبيه قياسٌ تندرج في ميله إلى مذهب المتكلمين الذي تحدَّثتُ عنه في قراءتي لأضرب البيان التشبيهي عند أبي الحسن الرمَّاني.
ولعل إشارة عبد القاهر الجرجاني أنّ التشبيه قياسٌ تفكيرٌ بلاغيٌّ على طريقة المتكلِّمين؛ لأنَّ الأشياء عندهم غموضٌ تامٌّ لا يكشفُ عنه إلا بإخراجه إلى الأظهر.
ومعنى ذلك أنّ التشبيه لا يكون في درجة البلاغة التي هي فوق الكلام الذي هو من أصوات البهائم ولو كان مستقيم المتن إلا إذا كانت القضايا التي يُستعملُ فيها قضايا غامضة يتوقّفُ عليها اعتقادُ المرء ودينه، وبها يمتازُ عن غيره، كالتشبيه الذي جعله أبو الحسن الرّماني للبعث بإعادة الكتاب..
إذن، كلُّ تشبيه يكون الخروج فيه من الأغمض إلى الأظهر بليغٌ في نظر المتكلمين، وكلُّ تشبيه يكون الخروج فيه من الأظهرِ إلى الأغمض أو الأبعد هو تشبيه غير بليغٍ إنْ لم يكن أقلَّ من ذلك في طبقة أصوات الحيوانات.
وعندما حاولتُ فهم مذهب الأدباء أشرتُ في معالم ذلك إلى أنّ معتنقي مذهب الأدباء في البلاغة يخرجون الشيء من الأظهر إلى الأغمض في مخالفةٍ صريحة لطريقة المتكلمين البلاغيّة.
واليوم أجدُ انطلاقًا من قول إمام البيان العربيِّ بلا منازع وأعني به الإمام الشافعي رحمه الله إذ يقول: البيان اسم جامع لمعانٍ مجتمعة الأصول متشعبة الفروع. وهو صادقٌ رحمه الله فيما قال، وأجد أنّ بلاغة الأدباء في التشبيه تنطلق من أصلٍ هو التفسير فكلُّ تشبيه عندهم تفسيرٌ لما يرومون بيانه، والتشبيه عند المتكلمين قياسٌ فيقيسون الأغمض على الأظهر حتى يخرجوا بالمخاطب من الجهل إلى العلم أما التشبيه عند الأدباء فتفسيرٌ لما يُغْرِمونَ به بالبيان، فينتقلون بالشيء وهو قريبٌ إلى شيء أبعد، أو شيء أغمض، أو شيءٍ أظهر لأنّهم يشغلون بما في قلوبهم وما تهيَّأ الخطابُ به، والمتكلمون لا يشغلون إلا بما في عقولهم وما تهيَّأ ليُعلَّم الناس عنه.
وخذ أبياتًا ثلاثةً يفسِّرُ بها طرفة بن العبد البكري عيني وأذنيّ وقلب ناقته لتجد أنه حين يفسّر اتساع عينيها يقول:
طحوران عوّار القذى فتراهما
كمكحولتيْ مذعورةٍ أم فرقد
فأخرج عينيها وصحّتهما واتساعهما لا كالعين المصابة بالرّمد بعيني البقرة المذعورة التي يكون الذعر لعينيها أحدَّ في نظرهما، وهذا تفسيرٌ فيه إغرامٌ بشيء لا تقع عليه حاسَّةُ البصر عادةً؛ إذ قليل من يشاهد أمّ فرقد مذعورة بله أنْ يرى اتساع عينيها وحدَّة نظرهما عند الذعر.
ويقول في أذنيها:
مؤلّلتان تعرف العتق فيهما
كسامعتي شاكٍ بحومَل مُفرَدِ
فشبّه أذنيها بأذني ثور وحش وحيد في حومل؛ وهذا يجعلُ أذنيه أحدَّ في السّمع، فأخرج لنا أذني الناقة في ارتكازهما كالحربتين بأذني ثور وحشٍ مفرد في حومل تجده مرتاعًا يتوجّسُ لكل صوت وأذناه مشدودتان يسبق كلّ صوت عينه إلى قلبه، وهذا من تفسير الشيء القريب بالبعيد الذي لا يُشاهدُ إلا بصعوبة لأنّ طريق الأدباء وعرٌ لا يسلكه إلا مغامرٌ فارق الأرض والأهل ليرى ما لم ير غيره، وليُغْرِمَ بما رأى فيجمع بين الغرام والإغراء.
ويقول في قلبها:
وأروعُ نَبَّاضٌ أَحَذُّ مُلَمْلَمٌ
كمِرداةِ صخر في صفيح مُعمَّدِ
هذا القلب حديد سريع الارتياب لنبضه صوتٌ يشبه صوت الصخرة الصلبة الملساء حين تدق بها الصخور على صخور عريضة مصفّحة مشدَّدة وكأنّك حينها تسمعُ لذلك دنينًا كدنين صخور ذُكِرت في حائل إذا طرقتها بصخرة تسمع لطرقتك دويًّا يملأ سمعك كأنّه يُحيطُ بك.
وهذا طريق تشبيه الأدباء الذي يقوم على مغامرة الأديب الفريدة، ويشبعها حين نقلها إغرامًا ببيان ما يعرفه الناس جميعًا بما لا يراه إلا الصفوة من المغامرين الذين يدركون حوافّ الأشياء وكأنّها واسط البيت الذي يسكنون..
** **
- جامعة الحدود الشمالية