نظّم كرسي غازي القصيبي للدراسات التنموية والثقافية في جامعة اليمامة، مساء الثلاثاء 14 مارس 2023، محاضرة بعنوان «المرأة في التراث العربي: الأمثال نموذجًا»، للدكتور صغيّر العنزي الأستاذ المشارك في جامعة الحدود الشمالية، وأدارتها الدكتورة نورة الصويان الأستاذ المشارك في علم الاجتماع والخبيرة في الاستشارات وشؤون المرأة.
ركزت المحاضرة على الصورة النمطية للمرأة من خلال نماذج الأمثال، وقد اقتصر المحاضر فيها على جانب الوأد الجسدي والثقافي في مدونة الأمثال، فتحدث عن الوأد بصفته طمسًا وحجبًا وردمًا وتغييبَ وجود، لا يفرق كثيرًا أنْ يكون هذا التغييب بإهالة التراب أو بحجب القيمة والمعنى والوجود الفعليّ عن المرأة.
وانطلق من أن هدف المحاضرة هو محاولة الكشف عن دور الأمثال وقَصَصها في صناعة شخصيّةٍ الموءودة/ العار، وتنميط صُورتها، ومن ثمَّ إدانتها وتأبيد هذه الإدانة عبر اشتغالات وأدٍ يتّخذُ من الثّقافة ومن صناعة الأوهام حول المرأة غطاءً شرعيًّا له.
وأشار إلى أن الأمثال تُعَدّ أحد أهمّ مراجع مادّةِ الوَأْد في التّراث العربيّ، فقد سجَّلَتْ أقدمَ وثائق جاهلية رصدَت الوَأْد، ومنها: «ذَنْبِي ذَنْبُ صُحْر»، و»أَضَلُّ مِنْ مَوءُدَةٍ»، ووثيقةٌ ثالثةٌ «دَفْنُ البنات منَ المكْرُمَات».
وأكّد العنزي أنه حينما نتحدّثُ عن الوَأْد من حيث واقعيته التّاريخيّة، فإنّ علينا أنْ نُفرّقَ بين نصّ المَثَل الذي قدّمه، والقَصَص التي ترافقه، فإذا كان المَثَلُ في مأمَنٍ من التّحريف، غالبًا، لقُدْرته على الحِفَاظ على ثبات صِيْغته التي تكون عاملًا من عوامل سيرورته، فإنَّ هذا لا ينطبق على القَصَص التي يوردها مدونو الأمثال؛ إذْ تتعرض هذه الأخيرة لضُرُوبٍ من الزِّيادة والبَتْر والوَضْع، وليس أدلّ على ذلك من اضطراب الرّوايات الخاصّة بالحادثة الواحدة وتعددّها. ويرى المحاضر أن نُصُوص المرويّات المُصاحِبة للأمثال عمومًا ينتسب كثيرٌ منها إلى العصر الذي دُوِّنَتْ فيه أو قُبَيْله أكثر من انتسابها إلى حادثةِ المثل الفعليّة وإلى عصره. ومن خلال هذه الحكايات يُمكن للثّقافة المدوِّنة أنْ تفرض وجهةَ نظرِها على المَثَل، فتُعدِّله ليوافق إيديولوجيّتها.
وأوضح العنزي أنَّ هذا الإشكال المُتعلِّق بصناعة القَصَص هو الذي أفضَى بالدكتور مرزوق بن تنباك إلى تفنيد حادثة الوَأْد. فالنَّاظر في مُجمل المناقشة التي أثارها في مسألة الوَأْد يجد أنّها تنطلق في أساسها من التّشكيك في المرويّات المقدَّمة، سواء على مستوى المضمون أو على مستوى الأسانيد، ولسنا ننازعه في أنَّ كثيرًا من هذه المرويّات مصنوعٌ. غير أنَّ هذه النّتيجة لا تُفضي بالضّرورة إلى ما انتهَى إلى تقريره من نَفْي الوَأْد بالمعنَى الذي اشتهر عند المُفسِّرين وفي الثّقافة العربيّة. وقد اتّكأ في زعزعة استقرار حادثة الوَأْد على فرضيّةٍ ذِهْنيّةٍ مُتوهَّمة عن أنّ (الموءودة) لفظةٌ غير مُستقرّة المعنَى ولا حاضرة في ذِهْن معاصريها، بالمعنى الشائع للوأد، ويقول المحاضر بأنها (مُتوهَّمة)؛ لأنَّنا لا نعثر لديه على مُستَندٍ عِلْميٍّ يقوم على أساسه عدمُ استقرار هذا المعنَى عندهم، وأدلّةُ النَّفْي يجب أنْ تكون بقُوّة أدلَّة الوجود. وقد قاد نفْيُ ابن تنباك فِعْلَ الوأدِ عن الذُّكور إلى نتيجةٍ مُؤدّاها إدانة المرأة بارتكاب هذه الخطيئة، (ولد السِّفاح -ابنًا أو ابنة- الذي تلقيه أُمُّهُ في العراء. وحسب تخمين ابن تنباك أنها تهيل عليه التراب)، ولم يزد ابن تنباك على أن جعل المرأة الموءودة والوائدة معًا، وأخلى مسؤولية الذكور، وذلك كعادة الثّقافة الذُّكورية في الاجتهاد في تحميل المرأة خطايا العالم منذ تُهمة تحالف حوّاء مع الشيطان إلى اليوم. ويضيف العنزي بأن مردُّ وَهم ابن تَنْبَاك إلى أنَّه لم يُفرِّقْ بين وظيفة النُّصوص التوثيقيَّة الواضحة، والنُّصُوص السَّرْديَّة المُرافقة التي تدخل فيها الصِّناعة والخيالات الشَّعْبيَّة.
ثم شرح العنزي: إن ما يُمكن الإشارة إليه هنا هو أنّه في حين يلحّ القدماء والمعاصرون على ردّ الوَأْد إلى عاملَي الفقر أو الخوف من العار نتيجة السَّبْي، فإنَّ قَصَصَ الأمثال التي تتحدّث عن وأد البنات، تحديدًا، لا تُشير إلَّا إلى العامل الثاني، كما أنَّ المرأة في هذه القَصَص لا تُجْبَر، وإنما تختار العارَ بمحض إرادتها بتفضيلها السَّابي على أهلها. وهذه المرويات -واقعية أم مصنوعة- قامت بدورها في ترسيخ صورة الموءودة، وفي غبن صورة المرأة.
ورأَى المحاضر أن الوأد بجانبيه الجسدي والثقافي -والثقافي أخطر- لم يستقر إلا بعد التسويغِ له بهشاشة هذا الكائن المدعوِّ أُنثى، وهي فكرةٌ قديمةٌ قِدَم الثَّقَافة نفسها، يؤكِّدها المعنَى اللغوي للفظة (أُنْثَى) الذي يعني الضعف والهشاشة واللين. والأُنُوثة لا تقف عند الضّعفِ وعدم الفاعليّة، بل تتجاوزُ ذلك إلى كونها عَدْوَىً ضارّةً تُصيبُ السَّيْفَ فيَكِلّ ولا يقطع، وتَخْدِشُ الذَّكَرَ فيفقد فاعليّته ويَضْعفُ. وهذا أوّل وَأْدٍ مُوْرِس على المرأة والتبسَ بها، فصار وَسْمًا يُحدِّد ملامحَها، ومعنىً سُجِنَتْ داخل علامتَي تَنْصِيْصه، ولم يَعُدْ باستطاعتها الخُرُوجَ منه أو عليه إلا حين تخرج من إهاب هُوِيّتها المصنوعة. ثم يتجسد هذا التَّصوُّر أوضح ما يكون في المَثَل/ الحِكْمَة: «إنَّ النِّسَاءَ لَحْمٌ عَلَى وَضَم»، وهو ما سمّاه الباحث «النموذج الوضميّ»، حيث تتركّز رُؤية العربيّ القديم للمرأة -حسب المَثَل- في كونها كائنًا سلبيًّا رخيصًا مُتَاحًا، هشًّا معروضًا، وجسدًا محضًا، لا يملك أيّ مُقاومة من أيّ نوع، فليس في طباعه صفةُ الإرادة. وضعفهُ لا ينبع من تكوينه الجَسَديّ وإنّما النَّفسيّ أيضًا، فهو -بفطرته- مُهيّأٌ للفاحشة، حسب تصور الثقافة. ومن خلال المعنى اللغوي للأنوثة، والنموذج الوضمي، لم تُسوّغ الثقافةُ الوأدَ فحسب، بل رأت وجاهته أيضًا (وجاهة الوأد الثقافي على الأقل).
وأشار العنزي إلى أنّ أهمّ ما يجب الوقوف عنده في مدونة الأمثال هو إسنادُ تسويغِ وأدِ الأنثى إلى الحُكَماء؛ ليصبحَ قولُهم حقيقةً مُطلَقة، وتصبحُ هذه القضيةُ من البداهات والمسلّمات التي لا تُناقَش، وتستقرُّ في الثقافة استقرارًا مطمئنًا. وانطلق من مناقشة بُكاء الأحنف بن قيس -وهو أحد رموز العرب في الحكمة والحلم- عندما بُشّر بأنثى، وتناول بالفحص والدراسة قول الأحنف حين سئل عن سبب بكائه: «وكيف لا تأخذني العَبْرةُ وهي عَوْرة، هديّتُها سَرِقة، وسلاحُها البُكاء، ومهنؤها لغيري؟». ثم شرّح قصة المثل: «ذَنْبِي ذَنْبُ صُحْر»، وبيّنَ كيف طُمِسَتْ قصة المثل الأصل التي نَقَدَتْ موقف لقمان الحكيم الحاسد لابنه، واعتدائه على ابنته إلى حدّ القتل، ثم صنعَتْ الثقافةُ قصّةً أخرى لهذا المثل تدين المرأة، وتتهم جنس النساء بالخيانة، وبسيطرة الجنس على إدارة حياتهن. وهي قصةٌ آزر الفقيهُ في صناعتها الأديبَ، واشترك المؤرخُ في تناميها، وصارتْ قصّةَ ثقافة. وقد اشتغلت هذه المروية على تثبيتِ إدانةِ المرأة، وإقرارِ مشروعيةِ وَأْدها؛ لأنها -كما تقول القصة/ الثقافة- على الرَّغْمِ من كلِّ الحواجزِ النَّفسيَّةِ، الطَّبيعيَّةِ، الثَّقافيَّةِ، فإنَّها تخون مع أوّلِ فُرصةٍ تسنح لها. فالخيانة في النِّساء -كما تقدّمها الرّوايات المتعاضدة- تركيبٌ في أصلِ خَلْقِهنّ، فلا يردهُنَّ رادٌّ داخليٌّ ولا خارجيٌّ عن شهواتهنَّ، ولهذا حُقَّ فيهن الموتُ، وقد كانَتْ العبارةُ الأثيرة عند المُدوّنين العرب: (وأنتِ امرأة)، أو (ألستِ امرأة؟) التي نطق بها موطنُ الحكمةِ والمعرفةِ والإلهامِ (لُقمان) -لتبرير قتله ابنته بعد قتل نسائه- بمثابةِ أمر حكيمٍ يقضي بالتَّخلُّص من النِّساء، وهو ما أجابَ به قومَه حين سألوه بعد الحادثة: لِمَ قتلتَها؟ فقال: «إِنَّهَا مِنَ النِّسَاءِ». واختارتْ المدونة الثقافية لقمان الحكيم بطلًا للقصة ولملحمة الوأد فيها لأنّه لا يُرَاجَع ولا يُناقَش فيما يُقِرُّه، بموجبِ مجموعِ قُدُراتِه الخارقةِ وحكمتِهِ المتناهيةِ وإدراكهِ لما لا يُدركهُ غيرُه. وقد اقتضَتْ صناعةُ القِصَّة أنْ تكونَ هذه الشخصيَّةُ المؤسطرةُ بطلتَها، بل، أيضًا، بطلة حكاياتٍ أُخرَى تدينُ المرأةَ وتثبتُ جرائمَها الجِنْسيّة، وتُؤصِّلُ الخيانةَ في طباعها، خاصة أنَّ الجماعة العربيّة تحتفي بكلِّ ما يُنْسَبُ إلى لُقمان التاريخيّ، وتُعظِّم شأنه، وتطمئنُّلى وجوده حين ترغب في ترسيخِ أفكارِها التي يسهلُ أنْ تُسندَها إليه، فتضمن قبُولَ الجمهور بها دون تحرٍّ.
ثم دعم المحاضرُ رأيَه في نسبة الوأد إلى رموز الحكمة بموقف قيس بن عاصم، وهو أحد حكماء العرب وحلمائهم، وهو من أحيا سنّة الوأد مرة ثانية كما تقول الروايات. ثم ناقش الباحث وأد المدونة للنوابغ من النساء من خلال اشتغالاتها المتنوعة عبر الوأد بالجنس أو بالقتل أو بتشويه السيرة، متحدثًا عن شخصية «سجاح» المتنبئة والمفارقة لشخصية المرأة في عصرها، عندما نازعت الرجال أعلى ما ادّعوه بعد وفاة النبيّ -صلى الله عليه وسلم- وهو النبوّة، وإشاعة مثَل «أزنى من سجاح»، لتقويض سيرتها ونسج القصص المجانية الرخيصة حولها، مع أنها -عند الرجوع لسيرتها الفعلية- تعد راسخة في النصرانية، وشخصية مثقفة وذكية، وبارعة في السياسة، تمكنت من أن تضم سادات من العرب تحت رايتها.
كما ناقش الباحث صورة المثل القرآني عن بلقيس وكيف قدمها القرآن بوصفها مِن أعلَى النَّماذج الإنسانيَّة في الإدارة والسُّلُوك وضَبْط النَّفْس وموضوعيَّة الرَّأْي والموقف، لكن النَّصّ المُوازِي (النَّصّ المُفسِّر للقُرْآن) سلكَ سلوك المدونة المثلية في الانتقاص منها، وفي تزوير بعض ملامح شخصيتها.
وضربَ العنزي عددًا من نماذج النساء التي شوهت القصص المصاحبة للأمثال سيرتهن حتى مع إنصاف بعض الأمثال لهن، ومن ذلك: «أبصر من زرقاء اليمامة»، «أمنع من أم قرفة»، وكذلك التحرش العمد بالبائعات كما في مثَل «أشغل من ذات النحيين»، ومحاولة معاقبة البائعة من خلال الاعتداء الجنسي عليها، كما يفيد فحص القصيدة المصاحبة لهذا المثل.
وتميزت قراءة العنزي لهذه المدونة بكشف المتواري وتشريح النصوص والتفتيش عن الأنساق المضمرة فيها، وربط كلّ ذلك بنسق الوأد الجسدي أو الثقافي. ثم تحاور المحاضر مع مناقشات الحضور من الأكاديميين والمهتمين ممن أثروا بمداخلاتهم الفكرة المطروحة، فقد انتقد الدكتور صالح بن معيض الغامدي (الأستاذ في جامعة الملك سعود) انتقائية المحاضر للأمثال التي تدعم وجهة نظره وترك ما يخالفها باعتبار أن المثل مجرد تعبير عن حالة ونقيضها، فهناك أمثال تعلي من شأن المرأة بقدر ما هناك أمثال صورت المرأة بصورة سلبية، والحقيقة الواقعية تقع بين هذين الطرفين. كذلك هناك إدانة من المحاضر للرجل مع العلم أن الرجل والمرأة كانا في ذلك العصر القديم في مركب واحد ولم يكن الرجل وحده هو الذي يتحمل الشرور التي تنسب إليه.
وذكر الأستاذ علي الشهري (باحث وكاتب) بأن الهيمنة الذكورية لا تزال قائمة حتى الآن فهناك من لا يحضرون زواج بناتهم ولا يباركون للشخص إذا أنجب فتاة، مقابل ما حظيت به المرأة من اهتمام وتمكين في العصر الحالي. وتساءل عن كيفية تغيير الثقافة المتجذرة من آلاف السنين.
ولاحظ الدكتور ناصر الحجيلان (وكيل وزارة الإعلام) أن الوأد هو قتل بطريقة مختلفة، وهذا القتل ليس مقصوراً على الثقافة العربية دون غيرها من الثقافات الفارسية واليونانية. وذكر أن الوأد كما تشير الرويات «بدأ في مضر وأشدهم بنو تميم». ولم ترد روايات على وجود الوأد في غير هذه القبيلة وبالذات في بطن من بطونها وهم «بنو عمرو»، ثم أصبحت نسبة الوأد إلى العرب كلهم بسبب ما نقلته الأمثال العربية باستخدام مصطلح «قالت العرب» للأمثال التي ينطق بها أبناء هذه القبيلة. وذكر ملاحظة تعضد الرويات القديمة بأن أشد الرجال قسوة في التعامل مع قضية خيانة المرأة هم من بني عمرو من تميم. ولأن الرصيد الثقافي يعمم الأمر على العرب فلابد من الأخذ بعين الاعتبار أن مؤلفي الأمثال هم من الرجال. وبالنسبة للأمثال العربية التي تعلي من مكانة المرأة فقد جمع صلاح الدين المنجد في كتابه «المرأة في الأمثال العربية» الأمثال منذ العصر الجاهلي حتى نهاية القرن الخامس الهجري التي تخص المرأة دون انتقاء معين، ولعله مرجع مناسب لدارسي صورة المرأة في الأمثال.