فشل بعض الفلاسفة والمفكرين في كتابة رواية جيدة، لأن الفلسفة طغت فيها على الحكاية، التي هي أساس الرواية، كانت فلسفتهم عظيمة في الرواية، لكن هذه العظمة أفسدت الرواية! وذلك لأنها ليست في موضعها، كمن يخلط شرابين لذيذين فينتج منهما شراب سيء الطعم.
تنجح الرواية الفلسفية عندما يكون كاتبها مبدعاً أدبيًا ذا ميول واهتمامات فلسفية وفكرية بعيداً عن الفلسفة الأكاديمية! بمعنى أن يكون مهتمًا بفلسفة الأشياء والأشخاص والمعاني المجردة من خلال كتاباته الأدبية، لا ليقدم نفسه كفيلسوف، بل ليقدم أدبه بفلسفة!
وسنتحدث هنا عن رواية سعودية فلسفية، هي رواية جاثوم للكاتبة شريفة محمد، من إصدارات دار أثر لعام 2014، كتبت لنا شريفة محمد رواية تُقرأ مرتين، وفي كل مرة تُقرأ الصفحة الواحدة مرتين! رواية معقدة إذن؟ لا، بل رواية عميقة، كلما غصت فيها أكثر زاد في رئة ذائقتك أوكسجين الدهشة! لن أتطرق إلى أحداث الرواية - رغم جمالها - فهي أحداث كأي أحداث في أي رواية، وما استعادتها إلا حكاية للحكاية مرة أخرى، وليست هذه وظيفة من يتصدى لقراءة نقدية، إن جاز لنا استخدام لفظ نقدية، بل سأذهب مهرولاً للتحدث عن جماليات هذه الرواية.
العنوان جاء من كلمة واحدة ((جاثوم)) وكان عنواناً موفقاً بحسب حبكة الرواية.
الإهداء لم يكن كما تجري العادة إلى شخص ما، بل إلى معنى مجرد وهو الحب الذي لم يحصل عليه أحد. وهذا كان حال حاتم بطل الرواية.
أول وأوضح جماليات هذه الرواية هو لغتها الأدبية الساحرة الفاتنة، تلك اللغة التي تسمو عن المألوف، وهناك نعانق الأدب.
أسلوب الرواية بلاغي مجازي فلسفي بامتياز، وفيها إسقاط للمادي على المعنوي. واختيار الكاتبة للغة الأدبية الرفيعة والأساليب البلاغية جاء مبرراً، فالرواي - وهو حاتم - أستاذ جامعي، وأديب وكاتب، وله زواية في صحيفة، فمن الطبيعي أن تكون هذه لغته، فاستخدام الأساليب البلاغية في الرواية لم يكن مقحماً. وحتى في حوارات حاتم مع الجوهرة والريم كان ذلك مبرراً، فالجوهر طالبة جامعية ومثقفة، أما الريم فتحب الكتابة وتكتب في المنتديات وغيرها باسم مستعار.
وظفت الكاتبة ثقافتها لخدمة الحكاية، وذلك من خلال التناص الذي استخدمته في الرواية بالإحالة على كثير من الرموز الدينية والثقافية والأدبية والاجتماعية. أظن أن الكاتبة راهنت على ذكاء القارئ ومستواه البلاغي والفكري حين كتبت بلغة مجازية بلاغية فلسفية.
اختارت الكاتبة أن تكون وجهة النظر في الرواية بضمير الأنا لرجل، وهو حاتم بطل الرواية، وهذا تحد كبير أقحمت الكاتبة نفسها فيه، لكنها خرجت منه منتصرة. من السهل أن تكتب المرأة بصوت امرأة، فهي تعرف كل خفاياها النفسية، ومشاعرها وطريقة تفكيرها، فهي امرأة مثلها، لكن أن تكتب بصوت رجل فتلك مجازفة كبيرة، لكن الكاتبة نجحت بتفوق، حتى أننا ونحن نقرأ نسيناها تماماً، ولم يعد أمامنا سوى حاتم، مقتنعون تماماً أنه هو من يتحدث، وهذا هو النجاح، أن يختفي الروائي الذي هو الكاتب، ويظهر الراوي الذي هو الشخصية، وهو هنا حاتم.
قُسِّمت الرواية على 30 فصلاً، كل فصل معنون بعنوان يخدم الفصل بصدق. حبكة الرواية متينة ومتماسكة ومتناسقة، ولا تضاد فيها نتيجة نسيان أو إهمال أو كسل من الكاتبة، حتى أنها تعود بنا في منتصف الرواية ومن نهايتها لتذكرنا بأشياء وأحداث ذكرتها سريعًا في بداية الرواية، كما حدث في حديثها عن الكوبين المتجاورين في بداية الرواية ثم في نهايتها، وهذا يدل أن كل شيء موجود في ذهنها ولم تنس شيئاً منه في غمرة الكتابة، خاصة وأن الرواية من 320 صفحة.
الترابط قوي بين أجزاء الرواية، أولها مع منتصفها مع نهايتها، لم تهمل الكاتبة أي جزء من الرواية، فقد وزعت الأحداث المهمة على جسد الرواية كاملاً، وبالتالي لم يكن هناك فراغ في أي جزء.
أما في الحوار فقد اعتمدت الكاتبة على مشهدة الحوارات، ببيان حال المتحاورين: يقومون، يجلسون، يذهبون للنافذة، يعودون للطاولة، يبيدون تذمرهم أو تهكمهم بحركة يد أو رفع صوت وهكذا.
مع أن هناك اتجاه يقول إنه من الأفضل عدم وصف حال المتحاورين كثيرًا، وترك مجال لخيال القارئ أن يتخيل ذلك، لكن الأمر متروك للكاتب ليختار ما يناسب طبيعة حواره.
الشخصيات جاءت متماهية مع حبكة القصة، فلم نجد أي شخصية زائدة بلا هدف.
ونجحت الكاتبة في تصوير الشخصيات بشكل دقيق من النواحي الشكلية والمعرفية والثقافية والنفسية، فصرنا نعرف الشخصيات جيداً دون لبس.
وقد كان الاختلاف بين الشخصيات ظاهراً، وهذا ضروري لإيجاد الصراع بينها، وبالتالي تطور الأحداث.
أعطت الكاتبة لجميع شخصياتها حقها من الظهور بما يخدم حكايتها، احترمتها جميعها، رئيسية وثانوية، واستطاعت أن تجعل الشخصيات تقول كل ما تريد أن تقول وبصوتها الخاص بها.
الوصف في الرواية كان دقيقاً وجميلاً، وصف الأماكن والأشخاص والأحداث والمشاعر، ولم يكن مبالغاً فيه بحيث يطغى على السرد أو يبطِّئ حركته.
وأجادت الكاتبة أيضاً في اختيار اللفظ المناسب للمعنى والشعور، فدلالة الألفاظ على المعاني والمشاعر تتفاوت كما هو معلوم. والرواية مليئة بالعبارات الساحرة والصور المبتكرة، فهي خالية من الكليشيهات المكرورة، والألفاظ ألفاظ بكر، وكذلك الصور، مثل مثلث الأحاجي صفحة 55، وعود ثقاب صفحة 60، والنمل الرأسمالي صفحة 216، ولا يتسع المجال هنا لذكر المزيد . سيجدها ويستمتع بها من يقرؤها.
استخدام علامات الترقيم كان جيداً، وكذلك المستوى النحوي. نهاية الرواية تنتهي باستفهام متماهية مع حالة التساؤلات التي يعيشها البطل طوال الرواية.
في بعض أجزاء الرواية زادت الفلسفة أكثر مما ينبغي لها، نعم حدث ذلك في مواطن عدة، لكن هذا لا يلغي جمالها وروعتها ولا يبطل سحرها، فلا يوجد عمل كامل، فكل ما ذكرناه من مزايا للرواية يجعلنا نغفر لها هذا الأمر؛ أما تذكُّر هذه الملاحظة ونسيان كل روعة الرواية فهذا إجحاف لهذه الرائعة، والوصف بالرائعة يعود على الرواية إن شئتم، وعلى كاتبتها إن أردتم.
آخراً، قبول أو رفض القارئ لأي رواية يعتمد على شيئين: الأول مستوى الرواية نفسها، الثاني مستوى القارئ نفسه، وقد تكون الرواية أفضل من القارئ فيبخسها حقها، وقد يكون القارئ أفضل من الرواية فتخذل ذائقته، وقد يتساويان في الأفضلية فينصفان بعضهما، وقد يتساويان في السوء وعند إذن تكون الكارثة!
** **
- عبد الله النجدي