الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
يعد الاعتراف بالخطأ دليلاً على نبل في النفس، ونضج في العقل، ووظيفة العاقل هي الاعتراف بالذنب إن هو أخطأ، والرجوع إلى الحق إن سقط، كما أن التمادي في الخطأ وعدم الاعتراف به سلوك لا يليق بمسلم بآداب الإسلام.
ويعد الاعتذار خلقاً نبيلاً، وبرهان صدق للقلوب الحية لأنه من الأخلاق الإسلامية التي تقي المجتمعات من سوء الظن، وتبادل التهم التي إن استقرت في القلب، لم يعد يجدي معها أي اعتذار.
فكيف يمكن أن نرسخ ثقافة الاعتذار وإشاعة روح التسامح والعفو والرحمة في المجتمع، باعتبار أن ثقافة الاعتذار في الإسلام قوة وليست ضعفاً..
حول قيمة الاعتذار وفضله تحدث اثنان من أصحاب الفضيلة.. فماذا قالا؟
المرتبة الرفيعة
بداية، يؤكد الدكتور عبدالعزيز بن علي الرومي، قاضي الاستئناف، أن الاعتذار خلق كريم لا يتمثله إلا العظماء، ولا يطبقه إلا الكرماء الأتقياء الأنقياء الأخفياء، ولا يعمله إلا أهل اليقين وأهل الإحسان وأهل البر والعطاء، ولا يقوم به إلا المسابقون والمنافسون إلى مغفرة الله وإلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض، أرادوا ما عند الله -عز وجل-، لم ينظروا إلى هذه الدنيا طرفة عين، خلق عظيم.
لا يستطيع أن يتمثل بهذا الخلق من كان في قلبه كبر أو استعلاء أو غطرسة أو تكبر أو ترفع عن الآخرين، حتى لا ينقص من قدره، ولا من مكانته، هذا الخلق تمثل به المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، تمثل به أنبياء الله ورسله، إنه خلق الاعتذار، الاعتذار عن الخطأ مرتبته رفيعة، همم عالية يرتفع شأنك وقدرك عند الله -عز وجل-، وعند عباده المؤمنين حينما تعتذر عن خطأك وعن تقصيرك في حق الله -عز وجل- أو في حق الخلق من المؤمنين والمسلمين، انظر إلى أنبياء الله ورسله؛ فها هو نبي الله موسى -عليه السلام- حينما قتل نفساً خطأً، قال الله -عز وجل- حكاية عنه: (رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له)، ونوح عليه الصلاة والسلام كان يتمنى نجاة ابنه (يا بني اركب معنا..)، إلى أن قال: (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق..)، قال الله: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح). ماذا قال نبي الله نوح عليه الصلاة والسلام? (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين..) هؤلاء أنبياء الله ورسله.
ملكة سبأ قال الله حكاية عنها (رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين)، إنه اعتذار فأسلمت وآمنت، اقرأ وتصفح كتاب الله. ماذا قال إخوة يوسف ليوسف؟ (تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)، بماذا أجاب؟ (لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين).
الأمر العظيم
ويسترسل الدكتور عبدالعزيز الرومي القول: قبول الاعتذار. بل اقرأ وانظر وتصفح إلى أبي البشر آدم -عليه الصلاة والسلام- حينما أكل من الشجرة التي نهى الله عن أكلها قال الله حكاية عنه (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين)، فغفر الله -عز وجل- لهما، ونحن بشر نخطئ ونذنب، ونقصر، هذا في حق الله.
أما الاعتذار للخلق فهو أمر عظيم، كم أخطأنا في حقهم في حق آبائنا وأمهاتنا، في حق أزواجنا، في حق أبنائنا، في حق موظفينا مرؤوسينا، بحق خدمنا، بحق جيراننا، في حق المسلمين عامة. هل حصل أخطاء، قد يحصل أخطاء؟ أو تقصير أو رفع صوت فما يستطيع المسلم أن يعتذر. حتى يقول في نفسه حتى لا أسقط من عينه أو عيون الآخرين ومن هو حتى أعتذر منه. أكون أنا الضعيف لا لن أعتذر عن خطأ. أنا لم أخطئ ماذا قال الله عن نبيه: (ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر). لقد عاتب الله -عز وجل- نبيه? في رجل أعمى (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى..) الآيات.. لما كان يدعو كفار قريش أو كبراءهم. تولى عن الأعمى، تولى فقط هو أراد ماذا؟ أراد أن يدعو المشركين إلى الله، ولكن الله -عز وجل- عاتبه من فوق سبع سماوات. فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل على ابن أم مكتوم ويقول له مرحباً بمن عاتبني فيه ربي. مرحباً بمن عاتبني فيه ربي.. ماذا قال لكفار قريش عندما فتح مكة، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم، قال اذهبوا فأنتم الطلقاء.
لا حرج أخي في الله، أن تكون همتك عالية، أن تكون من أصحاب القمم، فتعتذر عن خطأك أو تقصيرك أمام طفلك. نعم، كيف ذلك؟ حتى يعتبر ويأخذ الدرس منك فيعتذر عندما يكبر من الآخرين، لأنك عودته ونشأته على على صفة الاعتذار، على صفة الاعتذار، أبتاه قد وعدتني أن تعطيني هدية في هذا اليوم. بعدين بعدين واقع أم ليس واقعاً؟ نعم يا بني صحيح. أعتذر منك وهذه قبلة على رأسك. أعتذر لكن بإذن الله -عز وجل- سأحضرها في اليوم الثاني أو في الليلة الفلانية. اعتذار مقبول لا حرج أخي المسلم. أن تعتذر من زوجك حينما ترفع صوتك لأمر ما وقد غضبت غضبًا شديدًا. قال أبو الدرداء لأم الدرداء -رضي الله عنهما-:
«إذا غضبتُ فرضِّيني وإذا غضبتِ رضَّيتُك فإذا لم نكن هكذا ما أسرع ما نفترق».
وقال آخر لزوجته: «إذا استذيبت فاستنعجي وإذا استنعجت فاستذيبي».
شعرة معاوية بيننا وبين الآخر تجعل العاقل منا يغير المواقع بحسب المواقف، وهكذا إن اخطأت على زوجتك لا حرج أن تعتذر منها، وإن أخطأت هي لا حرج أن تعتذر، وإن اخطأت على أخيك أو على أبيك أو على قريبك أو على جارك أو على خادمك، رفعت صوتك يومًا ما على سائقك أو خادمك بكلمتين أنا آسف، أنا أعتذر، اغفر لي، اقبل عذري.. هل في ذلك حرج؟ لا والله ليس فيه حرج، مشدداً على المبادرة والمبادأة في تقديم الاعتذار، وسوف يقبل منك ذلك، وحتى لو لم يقبل فإن الله -عز وجل- سيحاسبك على قصدك ونيتك.
حرمة التعدي
يؤكد الدكتور مقبل الرفيعي الحربي الأستاذ بكلية الحديث والدراسات الإسلامية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة: إن المعتذر عما بدر منه يدل على قوة شخصيته، ورجاحة عقله، وقدرته على مواجهة الآخرين بكل قوة وشجاعة وأدب وتحمل للمسؤولية، وترسيخ ثقافة الاعتذار في المجتمع مما جاء في ديننا الحنيف، وبه تذهب ضغائن القلوب من الأحقاد والحسد والبغضاء والعداوة وبه تصفو النفوس وتحصل الألفة وترسخ المحبة، ويدفع المعتذر عن نفسه سوء الظن به والارتياب في تصرفاته،
وبين يدي ذلك أمور لا بد منها:
1 - ارفع الحرج عن نفسك، وذلك بالبعد عن كل عمل مشين يترتب عليه قيامك بالاعتذار، ولو اعتذرت فإنك لا تدري يقبل عذرك أو لا؟
ثم إن بعض الناس يضطر إلى الكذب لقبول عذره والكذب مصيبة أخرى، قال الأحنف: إياك وما تعتذر منه فإنه قلما اعتذر أحد فيسلم من الكذب.
2 - تقوى الله -عز وجل- والتحلي بالأخلاق الفاضلة التي رسخها الإسلام، ودعا إليها ورتب على فعلها الثواب العظيم، ويأثم من تجاسر عليها. عن عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً» رواه البخاري -واللفظ له- ومسلم، وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء». رواه الترمذي -وصححه- وأبو داود وأحمد. «وللبزار بسند حسن من حديث أبي هريرة رفعه: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق».
3 - احترام حقوق الآخرين والحفاظ عليها، وحرمة التعدي على الغير بالقول أو الفعل.
4 - الصبر وقت الخصومات على بذاءة القول، وكتم الغيظ، قال الله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين (133) الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (134)} آل عمران
5 - الرجوع إلى الحق والاعتراف به خير من التمادي في الباطل.
6 - الصدق في طلب العذر فإن الصدق منجاة، ونفع الله كعب بن مالك -رضي الله عنه- صدقة في اعتذاره عندما تخلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك إذا قال: فقلت: يا رسول الله، إن الله إنما نجاني بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت.
7 - الحذر من تكرار الخطأ الذي يعتذر منه مع الشخص نفسه أو آخرين.
8 - على المعتذر له أن يحسن الظن به، وإذا بلغك شيء عنه فاحمله على أحسنه حتى لا تجد له محملاً، وقبول العذر صفة لكرام الناس، وأعقل الناس أعذرهم لهم.
قال الشاعر:
إذا اعتذر الصديق إليك يوما
من التقصير عذر أخ مقر
فصنه عن جفائك واعف عنه
فإن الصفح شيمة كل حر
وقال آخر:
وقيل لي قد أساء إليك فلان
وقعود الفتى على الضيم عار
قلت قد جاءنا فأحدث عذرا
دية الذنب عندنا الاعتذار