د. أحمد بن محمد السالم
في فجر يوم الأحد 6-3-2023م الموافق 14-8-1444هـ، تلقيت اتصالاً هاتفياً من أخي المهندس عبدالعزيز الذي كان برفقة والدي في ذلك الوقت، وطلب مني الحضور إلى مستشفى الملك فيصل التخصصي، حيث دخل والدي يومه العاشر بالمستشفى، اتجهت إلى المستشفى على الفور، ودقات القلب تتسارع، والأرجل تتراجف، والأيدي تتنافض، والعين تدمع، وشريط الذكريات اراه ماثلاً أمامي، وتثاقلت خطواتي، وتماسكت نفسي حتى وصلت إلى غرفته، رحمه الله، وما أن فتحت الباب حتى وجدت والدي والذي تركته قبل وقت وجيز وهو في كامل قواه العقلية، في غيبوبة كاملة، أبلغني الطبيب بأن الأوكسجين نقص فجأة عن المعدل المطلوب، واستنجدت بعد الله بالطبيب في إنقاذ حياته، إلا أنه أخبرني بعدم القدرة على إنعاشه، وما هي إلا ساعات حتى يتوقف القلب. وفي الأثناء توافد بقية الإخوان والأخوات والأحفاد إلى المستشفى، وعشنا لحظات عصيبة، ونحن نرى والدنا بين أيدينا يحتضر، لم نملك إلا تلقينه الشهادة، وذكر الله، وقراءة القرآن الكريم، والتخفيف عليه من سكرات الموت، فقد دون المغفور له في وصيته «أوصي من حضر موتي بأن يلقني الشهادة برفق...» وبالفعل عند ظهر اليوم ذاته تراجعت العلامات الحيوية بقوة، وتوقفت الأجهزة عن العمل، معلنة بذلك رحيل والدنا.
خيم الحزن والحسرة على الجميع، وعملنا بما أوصانا به «أوصيكم بالصبر والرضا بقضاء الله تعالى وقدره والدعاء لي بحسن الخاتمة»، لم يورثنا الوالد الكثير من الأموال والأملاك، ولكن ترك لنا أكبر وأعظم ثروة، نفتخر ونعتز بها، ألا وهي خصاله الحميدة ومآثره الحسنة، والتي ينبغي أن تكون لنا نوراً ونبراساً في دنيانا وآخرتنا. يغضبه ذكر أي إنسان بما يكرهه، فكان يمقت الغيبة والنميمة، ويحذر من عواقبهما، وبشهادة الأهل والأقارب وجميع معارفه لم يتطرق يوماً ما إلى قبيح فعل شخص ما، أو تلفظ عليه بألفاظ نابية، أو جرح شعوره بقول أو فعل، ودائماً ما يذكرنا بترك شؤون الخلق للخالق، وعدم الخوض في ما لا يعنينا، والابتعاد عن النقد والانتقاد. ومن خصاله الحميدة، رحمه الله، قلة الكلام، ووزنه لما ينطبق به، وردود أفعاله الهادئه مهما كانت الظروف والأحوال. وقد أنعم الله عليه بحبه للصدقات، فلا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ولم أعرف عن بعض صدقاته إلا بعد وفاته من الآخرين. وعلى سبيل المثال، ذكر لي أحد الأقارب بأن الوالد وهو على سرير المرض بعث بالأرزاق السنوية المعتادة إلى بعض المحتاجين، قبل دخول شهر رمضان المبارك. وكان الوالد حريصاً على حقوق الناس، ويتميز بالدقة في تنظيم أعماله وأوراقه ومصاريفه ومداخليه، فتوفي -رحمه الله- لا طالباً ولا مطلوباً -ولله الحمد، وبدون أية شكاوى أو خلافات مع الآخرين، أراحنا في حياته ومماته.
وكان، رحمه الله، يصل في البعيد قبل القريب، ويسأل عن الصغير قبل الكبير، صلة الرحم في أهله وذويه لا تنقطع. قبيل وفاته، أولم أكثر من مرة للأهل والأقارب سواء من جهة والده أو والدته، وكأنها لقاءات وداعية. كان والدي -رحمه الله- زوجاً حنوناً وأباً رحيماً، ربانا على التألف والتعاضد، تناولنا معه في صغرنا الوجبات الثلاث اليومية، بمشاركة والدتنا، التي رافقته أكثر من سبعة عقود، كلها مودة ومحبة ورحمة. وكلنا نذكر كفاحه في بداية حياته من أجل تأمين سبل العيش الكريم لأولاده، عمل فلاحاً بمزارع والده بالدرعية، وعمره لا يتجاوز ثماني سنوات، كان والده (جدي) عبدالله -رحمه الله- يربط والدي على ظهر الجمل، المحمل بالخضار من المزرعة بعد منتصف الليل، لصغر سنه وخشية النوم في الطريق من عناء ومشقة المكدة في النهار، ويطلب من والدي سحب الحبل وفك الرباط عندما يصل إلى المقبرة بالرياض، على أذان الفجر أو بعد صلاة الفجر، وكابد شظف العيش واستمر في الفلاحة والزراعة معظم سنوات حياته. ودائماً ما يشجعنا على التحصيل العلمي، ويرجع اهتمام والدنا بالتعليم، إلى حرمانه من فرص العلم والتعلم في صغره. فكان الوالد وهو في سن الثامنة تقريباً، يدرس عند محمد بن داوود بالدرعية على الألواح، وفي كل يوم يذهب إليه والده ويأخذه من الحلقة الدراسية، لكونه أكبر إخوانه ولحاجة جدي له في المزرعة، ولم يفلح عم الوالد (الشيخ عبدالعزيز) -رحمه الله- من إقناع جدي في إبقائه في الحلقات الدراسية، ولم يتعلم الكتابة والقراءة إلا في مدارس محو الأمية للكبار. فهيء لنا فرص التعليم داخل المملكة وخارجها، وأرد أن يعوض في أبنائه ما فته، فاشترط لزواج إي منا سواء ذكراً أو أنثى حصوله على الشهادة الجامعية ووظيفة تغطي احتياجاته، وهذا بالفعل ما حصل لإخواني الثلاثة وأخواتي الأربع، نعم رحل عنا والدنا، ولكننا لن نرحل عنه، والله يقدرنا على الدعاء له والصدقات عنه، وسنعمل بوصيته في الإكثار من الأعمال الصالحة، لعلها تشفع له، ويجمعنا الله به مجدداً في الفردوس الأعلى من الجنة. اللهم ارحمه رحمة واسعة، وأبدله داراً خيرًا من داره، ونوِّر قبره وانس وحشته.
كل الشكر والتقدير والامتنان لمولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وسيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز على عبارات العزاء والمواساة في فقيدنا الغالي، والشكر موصول إلى المعزين من أفراد الأسرة المالكة الكريمة، وأصحاب المعالي الوزراء وأصحاب الفضيلة والمشايخ ولكل من واسانا في مصابنا ووقف بجانبنا وشد من أزرنا، وخفّف علينا من آلامنا وأحزاننا، حفظ الله ولاة أمرنا من كل سوء ومكروه وأدامهم الله عزاً وفخراً وذخراً لنا، وما أصعبه من فراق لأب حنون ومواطن صالح، قضى جل حياته في طاعة الله والأعمال الخيرية، وغرس في نفوس أولاده وأحفاده الولاء لولاة الأمر والانتماء للوطن، وحب الخير للآخرين. وسيبقى أبي حاضراً في القلب والوجدان ما حييت.
** **
- نائب وزير الداخلية سابقاً