د.عبدالله بن موسى الطاير
قد لا يبدو العنوان من الوهلة الأولى مناسباً، غير أن التمعن فيما يليه يبرر استخدامه، فقد استخدمه مؤلفا كتاب «إدارة العقل» جيلان بتلر وتوني هوب، وهما بصدد سرد أنماط التفكير التي تمثل العدسة التي ننظر من خلالها إلى الأشخاص أو الأماكن أو الأشياء من حولنا، أو تشكل معتقداتنا عن أنفسنا والكون من حولنا، فالطريقة التي نفكر بها قادرة على صناعة يومنا بالكثير من البهجة أو تصييره قطعة من لهيب. سرد المؤلفان ثلاثة عشر نوعاً من التفكير المنحرف؛ أولها تضخيم الأمور حتى تبدو وكأنها الكارثة التي لا نجاة منها، والمبالغة في تعميم الافتراض أو الظن بأن شيئاً سيئاً قد وقع، وسيقع دائماً، والإصرار على تضخيم الأحداث السلبية وإيلائها أهمية أكبر مما تستحق، والتقليل من شأن الإيجابيات، وتجاهل الأمور الحسنة التي قد تحدث، وادعاء قراءة ما في عقول الآخرين مع سابق الإصرار على التربص بالذات والحط من قدرها، واستهلاك الوقت في توقع الأسوأ بما في ذلك التنجيم، والتقلب في التطير بين التشاؤم والتفاؤل بمجافاة للواقعية، وأخذ الأمور على محمل شخصي، حتى وإن كان غير معني بالأمر، والمسارعة إلى لوم النفس وجلد الذات وتحميلها ما لا تطيق عن سابق علم بخطأ ذلك، والتعليل العاطفي والانفعالي للأحداث على غير معطيات حقيقية، ونعت النفس بما تكره والتقليل من شأنها، والمتاجرة بالخوف، واستمراء التمني.
بلدة بولانكا الفنلندية تعوم فوق بحيرة الأخبار والمشاعر السلبية، وهي أشهر الأماكن تشاؤماً في العالم كما يقرر موقع بي بي سي، ويقيني أن الذي صنفها لم يعرف بعض المجتمعات العربية الغارقة في السوداوية، زائر بولانكا لا تقابله لافتات ترحب بمقدمه إلى تلك البلدة، وتتمنى له إقامة سعيدة، بدلاً من ذلك يقرأ لافتات صفراء كبيرة تتزين بعبارات طاردة مثل: «هل ضللت الطريق؟ إنها بولانكا»، و»بولانكا تقترب، مازال بالإمكان العودة». هذه البلدة لم تحاول التخلص من حالها المزري، وإنما صنعت من التشاؤم علامة مميزة لها، فتستضيف مهرجاناً للتشاؤم، وحفلاً موسيقياً للمتشائمين، ودشنت متجراً على الإنترنت لبيع السخط والإحباط، وتقدم فكرة التشاؤم بصور مرحة، وتظهر مقاطع المصورة البلدة في أبهى حلل التشاؤم.
صفحة الحياة مزدحمة بالساخطين والمتطيرين، كما هي بطون الكتب مترعة بقصصهم ونوادرهم أيضاً، وفي كتابه الموسوم «الغرائب» أثخن الطبيب والفيلسوف الصهيوني ماكس نورداو في الساخطين سخرية وتقريعاً. ويسلك أبو العلاء المعتري سبيل ماكس فيجلد المتطيرين ويعف عن ذكر الساخطين كونه أحد أشهر الساخطين في الأدب العربي، يقول مخاطباً المتشائمين:
لا تفرحن بفالٍ إن سمعت به
ولا تطيَّر إذا ما ناعبٌ نعبا
فالخطب أفظع من سراء تأملها
والأمر أيسر من أن تضمر الرعبا
وكان أبو الحسن بن الرومي إماماً للمتطيرين، ومن تعبيره شعراً عن إيمانه واعتقاده في التشاؤم والتفاؤل قوله:
لا تهاون بطيرة أيها النظار
وأعلم بأنها عنوان
قف إذا طيرة تلقتك وانظر
واستمع، ثَمَّ، ما يقول الزمان
وأذكر مرة أنني دخلت وصديق من الساخطين مطعماً عربيا في واشنطن كتب صاحبه على صفحة قائمة الطعام: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم» فسدت العبارة نفسي وفتحت نفس صاحبي للأكل، ولم أدخل المطعم بعد ذلك.
التفكير المنحرف عن جادة الصواب سخطاً أو تطيراً في التعاطي مع الحياة وشؤونها سمة بشرية لا يسلم منه عاقل، ولكن هناك من يجتازه كمطب صناعي على طريق سريع، وهناك من يغرق في الفكر المنحرف فتتحول حياته ومن حوله إلى جحيم. ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قوله: «ثلاثة لا يسلم منهن أحد؛ الطيرة والظن والحسد». قيل له: «فما المخرج منهن يا رسول الله؟» قال: «إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغِ».