عبدالمحسن بن علي المطلق
شعبان بقيت عليه أيام فيمضي، وعلى أُفق انطوائه تنبعث فرائحه برائحة رمضان التي على ألقنا تلوح، ونسائم حلول مقدمةِ تفوح..
فاللهم هيىء قلوبنا له .. حباً للعبادة مع إقرار تقديراً لفضله..
فما شعبان (لو) تيقّنا عدا محطة للاستعداد لرمضان، على وجه دلالة أن من صحّت بدايته صلحت نهايته..
وعلى هذه المحاري استقبالاً للشهر الفضيل، ونسائم قربه الغرّة أطرق موضوعاً يكاد يتكرر كل عام..
منذ تنفّست البشرية الصبح، والصراع بين القديم والجديد قائم، ولكل منهما لا أقول قوة بل ناصر يرفد دواعي ما يقول به، بالأدلة والبراهين التي تجد من يرجح عنده أحدهما حين يقتنع بها، أو يراها الأقرب للأصوب، و قلّما يحد عنها قيد أنملة، بل تلفي بينهم من يتعصب، و.. مهما برر له الندّ - لا أحبذ قول الخصم - صواب الوجهة الأخرى، فنادراً ما يُسلم.
بمعنى أن لكل مدرسة ولياً ونصيراً.. من الشواهد الراجحة فيتبعها برادفة من التعليل، فهو لا يأخذ موقفه هذا جزافاً فضلاً أن يكون منبعه - لديه - عناداً.
على أن كل ما تقدم مستساغٌ إذا خضع لشروط أدناها أن لا يثرب أحدهما على الآخر، أو يقلل من شواهد ما لدى منافسه، وإلا فلا تخفى جُملة ( أن في بني عمك.. رماح).
وبعد..
يمتد (الصراع) بين القديم والحديث لأجيال.. قائمٌ على عروشه، بل إنه لا.. ولن ينقطع بهذا الجيل ولا بعده، لأنه وببساطة كلّ عنده من الدوافع لمنحاه ذاك، كما وأن هذا مما يُقبل، فيُبلع بميدانه الجذب والشدّ..
لكن أمور الثوابت لها من السياج ما لا تخضع البتة لمثل هذا، ومن أدخل بالثوابت من الجديد أو عذّر بالتجديد فهو كمن تساوى عنده السما والعمى في قبول الصراع حولها، فالحق قديم، و كلٌّ ينشده.
بل أدنى، كمن يظن أن هناك مسلمات في المشتبهات، فانبذ إليه على سواء أنك أبعدت النجُعة.
نعم الدنيا ماضيةٌ لا تقف، كما والذي عُهد بسلمها أن القديم الذي يراه أهله أصلح وأصوب .. سيق بمعللات ستأتي، فكذا هي الحال للحديث .. الذي له أنصارٌ، ولعل على منوالهما تنسحب جُملة:
( نهج السلف أسلم و نهج الخلف أعلم)، وهذه - المقالة - لها وقعٌ رنانٌ، على .. أن لها شواذ، أعني لا يُحتكم لها على الدوام..
فإن كان لـ كفّتي أحدهما النصر هو المضطرد، أي يوماً لهذا وتالياً لذاك، تجد بين حين ومين وقعةً للشاذ عنهما، والذي على اسمه، من هنا نجده لا يعتدّ به، لأن حدوثه بأحوال (نادرة) جداً.
هذا، وقد وقع بالعهد النبوي كهذا الحدث يوم صاموا 28، ليحل عليهم العيد - بعد رؤية هلال شوال-.
فهي مما ليس لها حكم ( يُقاس ) عليه، وعليه كافّة ما تقدّم لأقول:
لا زال هناك طرفان في موضوع دخول- وخروج- الشهر الهجري لا تكاد تظهر على أفق اهتمام السواد من الأمة.. في مثل هلال شهر الصيام.. ولا غرو.
لأن فيه ينعقد الركن الثالث (الصيام)، كما أن في خواتيمه العيد.. - أبلغنا الله وإياكم، ذاك اليوم السعيد-، وجعلنا جميعاً من أهله..
فمحل رفع هذا الأمر، إبرازه قدراً وقفاً على ما فيه من بدء عبادة وانقضائها، لذلك كان لذاك من الدواعي، وينسحب هذا- الاهتمام- بدخول ذي الحجّة..
وكما أن للمدرستين مؤيداً و نصيراً، كما تقدم جلاءً، لكل منهما بظرفية .. أو بمرحلة الثبور، أي مرّة لهذا وكرة لذاك.
و ليس بعجيب، لما تجد له مماثلاً، التربية المدرسية بعهدنا على الأخصّ .. تُلفى قابعة بين مدرسة قديمة تجد في «الضرب» أنجع لتقويم التلاميذ، ومدرسة حديثة ترى نتاج (القوة الناعمة) هي الأجدى سبيلاً، ولكل منهما من القوم مرجّح، فعضيد لهذا، وشهيد لذاك..
ففي نهج القديم الشدّة (.. من ضرب و غيره) في المدارس هي الأكثر تحصيلاً ( بالكيف)، فيما ترى الأخرى النهج الحديث ما يلزم أن يكون السائد مُدللين على غزارة الناجحين (كمّاً )، ولكل منهما دلائل ما لا تسطّع أن تطمس على أحدهما .
لكننا -والواقع يشهد- مما لا يخفى على شريف علمكم أننا(مسلّمون) أعني بهذه الحقبة للمدرسة الحديثة، بحجة غير مدحوضةٍ وهي أخذ فرصتها كاملة، ومن ثمّ نُخضع نتائجها للتقييم.
والتعليل الأكبر للمدرسة الأولى البناء على حديثٍ عن الصلاة ( واضربوهم عليها لعشر..)، لكن لتقارب عالم اليوم، والذي بلا مكابرة قد تغيّرت لغته، واستجدّ إثرها خطابه، ما أمسى للقوة الناعمة - كذا تُوصف - من الوقع والتأثير ضراوة.. أقصد غلبة مُؤيديها.
وعوداً للموضوع، فأبسطه علمياً مع ملحظ أن ماء التالي من المادة هي منقولات من «البريد الشبكي» الإنترنت، مما ليس لقلمي سوى التآلف بين تلكم لأقول عن هذا الشأن الذي يأخذ منّا جهداً وأحياناً حدّة - خفيّةً- لا حيدة فيها عن مرام القصد بها، وغرضه ( الأسمى)، أعني كلّ متحرّي ما هو أولى لنا .. سلكه.
فما يقال سلفاً أي في العام بل الأعوام المنصرمة، وحتى التي دخلت بها التقنية فغطّت على أشياء كثيرة خدمتنا بها، إلا أنه يبقى ل(علم السلف أسلم).. لحضوره القوي والذي للعلم لازال وحده يُؤخذ به، سوى باستثناءات ربما لا تُذكر، و هذا لا يُنكر حتى لدى أهل المدرسة الحديثة..
أخذاً بحديث كأن به قطعٌ لقول كل خطيب، وهو قوله صلى لله عليه وسلم: (إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا. يَعْنِي مَرَّةً تِسْعَةً وعِشْرِينَ، ومَرَّةً ثَلَاثِينَ) رواه البخاري - رحمه الله-.
فـ جملة(.. لا نَكْتُبُ ولَا نَحْسُب) أي: نحنُ العرَبَ «تَغلِبُ علينا الأمِّيَّةُ « ليست ضد العلم، ولكن(البَقاءُ على أصْلِ وِلادةِ الأمِّ)، يعني: أننا لا نَعرِفُ القِراءةَ والكِتابةَ، والحِسابَ، أو المرادُ بالحِسابِ (حِسابُ النُّجومِ والمنازلِ والفَلَكِ)، وذلك (باعتبارِ ما غلَب عليهم - أي القوم يومئذٍ-، وإلَّا فقدْ كان في العربِ مَن يعرِفُ ذلك ولكنَّهم قِلَّةٌ)، أنظر في»الدرر السنّية» ..
إيضاح حول الحديث لما يُحدث ببعض المفاهيم من خلط و ربما خمط(2) في التعليلات/
ما جاء لهذا من مسبّبٍ، مرامه كما جاء عن ابن بطال وغيره ( أننا لم نُكلَّف في تعريف مواقيت صومنا ولا عباداتنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، فالنبي عليه الصلاة و السلام ألغى الحساب، ولم يجعله طريقاً لذلك، وإنما رُبطت عباداتنا بأعلام واضحة، وأمور ظاهرة، يستوي في معرفة ذلك الحساب وغيرهم) -أنظر في (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)-3/ 137-
قال ابن تيمية رحمه الله حول رؤية الهلال بالعين و بعيداً عن الحسابات..(وقد أجمع المسلمون عليه. ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث؛ إلا أن بعض المتأخرِين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسبِ أن يعمل في حق نفسه بِالحسابِ فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإِلا فلا. وهذا القول وإن كان مقيداً بِالإِغمامِ ومختصاً بالحاسبِ فهو شاذ مسبوق بِالإِجماعِ على خلافه. فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عمومِ الحكمِ العام بِه فما قاله مسلم)
فالمهم وكـ(إجابة على السؤال) الذي .. إلا ويرد في الذهن، بالتالي/
ففي يوم (أُغْمِيَ على المسلمين بعهد النبي (هِلالُ شوَّالٍ) فأصبحوا ذلك اليوم «صِيامًا»، فجاء ركْبٌ مِن آخرِ النَّهارِ.. إلى أن قال الراوي:
«فشهِدُوا عند النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّهم رأَوُا الهِلالَ بالأمسِ»، أي: شَهِدوا أنَّهم رأَوْا هِلالَ شوَّالٍ من الأمسِ، وأنَّ يومَ مجيئِهم كان هو يومَ العيدِ، «فأمَرَهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُفْطِروا مِن يومِهم»، وكانت الشَّمسُ قدِ ارتفَعَت وخرَجَ وقتُ صَلاةِ العيدِ، ثم أمر النبي»أنْ يَخرُجوا إلى عيدِهم مِن الغَدِ»، ففي أمْرِه صلَّى الله عليه وسلَّم إيَّاهم بالخُروجِ من الغَدِ لصلاة العيد ولعلَّه ضاق الوقتُ عن إدراكِ الصَّلاةِ في وقتِها مع الاستعدادِ، فأمَرَ بتأخيرِ صَلاةِ العيدِ مِن الغَدِ في وقتِه، وهذا ما يتوافَقُ مع ظاهِرِ الحديثِ. أو ليجتَمِعوا ويَدْعوا اللهَ تعالى؛ لأنَّه يومٌ مُجاوِرٌ ليومٍ شَريفٍ، وفيه مَظِنَّةُ الإجابةِ.. إلخ)، مسند أحمد و سنن أبي داود و النسائي- رحمهم الله-
فلم يكن القوم قبيل المئة الثالثة (3) يعوّلون البتة على الحساب، و الدليل كملحظ هام/
«جاء رجل إلى القاضي حسين ـ وهو من فقهاء الشافعية ـ فقال له الرجل (4): لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال لي: «إن الليلة بداية رمضان».
فقال له القاضي: إن الذي تزعم أنك رأيته في المنام قد رآه الصحابة في اليقظة، وقال لهم: «صوموا لرؤيته»، فإذا قال شخص:
رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبرني أن الليلة أول رمضان. لم يصح بذلك الصوم لصاحب المنام ولا لغيره بالإجماع (كما قال القاضي عياض)، وذلك لاختلال ضبط النائم لا للشك في رؤيته - صلى الله عليه وسلم -، نقله النووي في شرح المهذب عن القاضي عياض رحمهم الله.
هذا و بمناسبة (الأحلام)، فهاكم لطيفة، أن كان المجال سانحاً/
ما جاء في ترجمة الإمام أحمد رحمه الله، قال المروذي : (أدخلت إبراهيم الحصري على أبي عبد الله (أحمد بن حنبل) فقال: إن أمي رأت لك مناماً، هو كذا وكذا. وذكرت الجنة، فقال:
يا أخي، إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج إلى سفك الدماء، الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره)(3) - سير أعلام النبلاء (227/ 11)-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) تعبير عصري يلزم استخدامه لإيجاز دلالة تكاد تكون متفقاً على مصبها.
2) خمط اللبن أو الخمر أو الإناء : تغيرت رائحته وفسدت.
3) هنا لابد من تكرار هذه.. بعد عن اللبس ( في الضمير، وتدبر هذه بالآية {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا}.. وفي الآية التي تليها تكررت {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا}.
4) .. وهذه الجملة تكتب بماء الذهب، بالذات في عصرنا.. الذي نحى كثيرين إلى هذا الموضوع الرؤى -جمع رؤيا-