عبدالوهاب الفايز
في أغلب اللقاءات الإعلامية الخليجية - خصوصًا الجانبية المختصرة - يُطرح عادة وبنوع من الألم والحسرة موضوع الصورة الإعلامية لشعوب وقيادات دول مجلس التعاون في الإعلام العالمي. فأغلب النخب الإعلامية الخليجية يرى أن دول المجلس قدرها الوقوع في منطقة الاستهداف الإعلامي المستدام، الذي يسعى لتكريس صورة نمطية ذهنية سلبية عن شعوب المنطقة وقياداتها.
هذا الاستهداف سوف يظل يتوسع الآن ومستقبلاً، بالذات مع دخول دول المنطقة بقوة في صياغة السياسات والتوجهات التي تخدم مصالح شعوبها العليا، فهذه سوف يترتب عليها إعادة ترتيب للبنية الأمنية والسياسية للمواقف إزاء ما هو مطروح عالمياً، وهذا يتطلب الحكمة والتحركات الحذرة والمحسوبة بين التكتلات التي تشكل النظام العالمي الجديد، بالذات الصراع بين أمريكا وحلفائها الغربيين وبين الصين وروسيا.
مبادرة دول المنطقة للتفاعل بقوة في صياغة الأحداث العالمية أصبح حقيقة إيجابية حية، ورأينا نموذجًا قريبًا وهو الاتفاق الثلاثي السعودي الصيني الإيراني. فالحراك السعودي النوعي في الملف الإيراني، خصوصًا شقه الأمني، سوف ينعكس على أمر مهم لمستقبل المنطقة وهو: استقرار إمدادات الطاقة. هذا العامل يعيد للمنطقة وبقوة الأهمية والمكانة الجيوسياسية. والمناورات البحرية الصينية الروسية الإيرانية في خليج عُمان هذا الأسبوع تستحوذ على الاهتمام الأمريكي والأوروبي، ونخشى أن تجعل المنطقة على صفيح ساخن قادم بين القوى والتكتلات الكبرى.
سباق المصالح في المنطقة سيكون مصدرًا للمعاناة للدبلوماسية الخليجية وسوف يختبر مدى تعاونها وكفاءتها في إدارة المصالح الدوليه المتنامية للطاقة. ويتطلب من الإعلام الكفاءة المهنية والقدرة على ترتيب التدخل الإعلامي الذي يستوعب المخاطر على المنطقة واحتمالات الصراع العسكري.
مصدر التهديد للأمن في المنطقة يعززه تاريخ وتطرف الواقعية السياسية للمعسكر الغربي، فهذا لديه عقيدة وغريزة البقاء التي طورت آليات التدخل والهيمنة والتآمر للوصول إلى المصالح. هذا المعسكر لا يؤمن بروح ومبادئ الحياد. بالعكس، هم يطالبوننا بالانحياز لمواقفهم، ولا يترددون عن المطالبة بالمواقف الصريحة: معنا أو ضدنا! وقد رأينا صورة محدثة - من هذه الروح المسكونة بالهيمنة - في حالة الارتباك والنبرة الحادة تجاه الاتفاق الثلاثي السعودي الصيني الإيرانى. كيسنجر وصفه بالتلاعب بالمواقف رغم أنه ممن يطالبون بنهج الحوار الدبلوماسي لحل النزاعات، وهو ما يطالب به لحل الأزمة الأوكرانية.
وهناك تحدٍ كبير للإعلام الخليجي، وهو الوعي بالمرتكزات التي تعزز الجبهة الداخلية لدول المجلس بالذات الأمور الاجتماعية والإنسانية والثقافية. هنا ثمة مسؤولية كبيرة على الإعلام لتحصين الشباب الخليجي المستهدف من المنظمات المحسوبة على التيارات الليبرالية الغربية المتطرفة التي أصبحت تتبنى حرباً ثقافية وفكرية للتأثير على القيم ومقومات التنشئة الاجتماعية للشباب. المطروح بقوة الآن هو التلاعب في الهويات الجندرية، وهذا أمر خطير لأنه يجر الشباب إلى صراع مع الذات ومع المجتمع.
والتلاعب بالمرتكزات الثقافية قضية خطيرة على الشباب، بالذات مع سهولة وصول الأطفال والمراهقين إلى المحتويات المطروحة في فضاء التواصل الاجتماعي.
وهذا أمر أصبحت المجتمعات الغربية تراه مصدر تهديد حقيقي لأجيالها الشابة. قبل بضعة أسابيع انشغل كبار الكتاب والمعلقين والباحثين في كبريات الصحف والمجلات الأمريكية في نتائج المسح الذي أجراها مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها حيث أظهر نتائج مثيرة للقلق بعد (مسح سلوك مخاطر الشباب) الذي أظهر خطورة الأزمة النفسية التي يواجهها المراهقون، وخاصة المراهقات. في عام 2021، وجدت أن ما يقرب من 60 في المائة من فتيات المدارس الثانوية عانين من مشاعر مستمرة من الحزن واليأس. وكشف أن ما يقرب ربع عدد الفتيات لديها (خطة انتحار).
والانزعاج من خطورة وسائل التواصل الاجتماعي على الصحة العقلية تدعمه اهتمامات الباحثين ومراكز صنع السياسات، فقد وجدت 55 دراسة علاقة كبيرة بين الوقت الذي يقضيه المراهقون على وسائل التواصل الاجتماعي واضطرابات المزاج. وهناك دراسة أجريت عام 2022 ونشرت في المجلة الاقتصادية الأمريكية وجدت أن دخول فيسبوك في الكلية - موضع الدراسة - أحدث تأثيرًا سلبيًا على الصحة العقلية للطلاب، مما قدم أدلة على أن فيسبوك عزز حالات المقارنات الاجتماعية غير المنسجمة في نمط الحياة ومظاهر المعيشة.
كل هذه تفرض تحديات جديدة للقيادة السياسية الخليجية، وتتطلب جهداً إعلاميًا محترفًا. الذي نعرفة منذ عقود عدة أن القيادات في دول المجلس كانت واعية لأهمية بناء منظومة الإعلام وكانت الاعتمادات المالية الضرورية يتم توفيرها.
المؤسف أن الاستثمارات الواسعة في الإعلام ومنذ عقود لم تبن كيانات مرتبطة بالهموم والتحديات الأساسية لشعوب المنطقة، بل انتهى أغلب هذه الاستثمارات الحكومية إلى تكوين الثروات الخاصة وصناعة النجوم، وأنفقت على الأموار الشكلية مثل المناسبات والاحتفالات، والمنتجات الدرامية والترفيهية التي يصممها وينتجها شركات ووكالات الإعلان.
لم تنفق على بناء الإنسان وتأهيله، فالموارد البشرية المحترفة مازلت نقطة الضعف الكبرى في الإعلام الخليجي مما فتح الساحة لأنصاف المهنيين وتجار الإعلانات ومنتجات الدراما والترفية الهابطة البعيدة عن احتياجات وهموم الشعوب الخليجية، بل هذه تشوه صورتها!
المؤسف أن هذه المنظومة ظلت بعيدة عن تقديم المنجزات التي تحققها الشعوب والحكومات في مجال بناء الإنسان وبناء مقومات الحياة الأساسية، وأغلب (خيرها لغيرها!).