د. محمد بن عويض الفايدي
البحث العلمي والتطوير التقني سلاح مواجهة كل التهديدات والمخاطر والتحديات، وأداة السباق العلمي والتنافس المعرفي الذي يرسم خطوط التماس بين الشعوب المتقدمة والأخرى المتخلفة، والبلدان الرائدة والمؤثرة وغيرها من البلدان المتوارية والأقل تأثيرًا. ومراكز البحوث والدراسات هي محاضن الفكر ومخابر الإبداع، ومستقر إنتاج المعرفة. وبمقدار استشراف مراكز البحوث والدراسات للمعارف الحيوية والحاجات الجوهرية، ومعالجتها للمشكلات والقضايا الحرجة تتشكل الفروقات بين المجتمعات الإنسانية. وهذا سر التمايز بين الدول والتفاضل بين المجتمعات والمعيار الحقيقي لقياس مستوى تقدم وتحضر الأمم.
مصادر التهديدات تتعدد وتختلف طبقًا لجسامة المؤثرات وعمق الأثر، وتفرض التكنولوجيا والنظم التقنية معطياتها على جل أنماط الحياة البشرية تعليمية وصحية وغذائية واقتصادية ومالية وصناعية وزراعية وإعلامية وعسكرية وأمنية وترفيهية وغيرها، وقد تندر الأنشطة إن لم تنعدم التي لا تدخل التقنية ضمن متغيراتها. لكن النظم والبرامج التقنية أكثر عرضة للتهديدات، وأسرع تعرض للمخاطر من غيرها لذلك ظلت وستظل محل الاستهداف المستمر للتدمير والتخريب، ويأتي الإرهاب بأشكاله التقليدية والجديدة المهدد الأول لمعطيات التكنولوجيا وبرامج التقنية.
مواجهة التهديدات والتصدي للمخاطر ومعالجة المشكلات يحتاج إلى إرادة ومهارة وأدوات ومناهج علمية وكوادر بشرية مؤهلة ومدربة على القيام بالبحث العلمي الرصين الذي يستشرف للمستقبل ويستنبط من النظريات ويؤصل للتطبيقات ويبتكر الأساليب والأدوات ويعالج المشكلات ويضع الأسس والأطر للتعامل مع المعضلات.
للإرهاب بصفة عامة والإرهاب الإلكتروني بصفة خاصة تهديد مباشر الكل يدركه لمختلف معطيات التكنولوجيا ولكل برامج التقنية ومع حجم هذا التهديد فإن جهود البحث العلمي ودور مراكز البحوث والدراسات لا يزال محدودًا. ويبدو أن الجهود لم تزل في إطار المحاولات ولم ترتق إلى معالجة ظاهرة الإرهاب الإلكتروني بما يحد من انتشارها ويحول دون تطوير فنون ارتكابها. وفي هذا الإطار تعاني الدول النامية عامة والعربية خاصة من انخفاض الإنفاق على البحث والتطوير وضعف الترابط بين مؤسسات الإنتاج والخدمات ومؤسسات البحث العلمي، مما يؤدى إلى تشتت الجهود البحثية وانخفاض عائداتها في ظل معاناة البحث والتطوير من شح الموارد والإمكانات، ومن وجوده في أسفل قائمة الأوليات الإستراتيجية. كما أن معظم الجهود البحثية مازالت توجه إلى البحوث الأساسية ونسبة ضئيلة منها إلى البحوث التطبيقية، فضلاً عن غياب الدعم والمؤازرة للباحث. وكذلك من غياب سياسات واضحة المعالم توجه جهود العاملين في مؤسسات البحث والتطوير. فالسياسيات الحالية للبحث العلمي على المستوى العربي هي في أحسن الأحوال سياسات مؤسسات منعزلة وغير منسقة وليست سياسات عامة في إطار مخططات وبرامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية الحديثة. ناهيك عن أن غالبية البحوث القائمة لا تحاك مشكلات المجتمع ولم تلب متطلباته، ولاسيما أن غالبيتها نتاج لجهد فردي في الغالب يهدف إلى ترقيات علمية ومشاركات في مؤتمرات وندوات. إضافة إلى محدودية الاستفادة من نتائج البحوث والدراسات المتاحة، وسوء التنسيق بين مؤسسات المجتمع من جهة ومراكز البحوث والتطوير من جهة أخرى. علاوة على الشح في المعلومات اللازمة للبحث والتطوير، وندرة الخبرات الماهرة في مجال البحوث والدراسات المتخصصة، وضعف في وعي المجتمع بأهمية البحث العلمي، وكذلك انخفاض الطلب على مخرجات البحث ونتائج البحوث والدراسات في البيئة العربية والمحلية.
يمتد القصور إلى عدم وجود إستراتيجية متكاملة ومترابطة ومنسقة للبحث العلمي والتطوير التقني. كما أن بيئة البحث والتطوير ليست جاذبة للباحثين الأكفاء. ناهيك عن ضعف التنسيق وغيابه بين مؤسسات البحث والتطوير والقطاعات المستفيدة، وتراجع دور القطاع الخاص في تمويل الأبحاث فما زالت الأبحاث تعتمد على التمويل الحكومي الجزئي وجوانب محدودة من القطاع الخاص. وتشير الإحصاءات ذات العلاقة بالبحوث والتطوير إلى أن أنشطة البحوث والتطوير المتخصصة في المملكة بدأت منذ ما يزيد على أربعة عقود من الزمن في عام 1397هـ، من خلال إنشاء مراكز بحثية متخصصة، من أهمها مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، وبهدف الرقي بمستوى البحوث والتطوير في المملكة قامت المدينة بإيجاد برامج منح متعددة لدعم البحوث العلمية والتقنية التي تخدم أغراض التنمية في المملكة إلا أن تلك البرامج لم تتم الاستفادة منها كما ينبغي. كما أن منح براءات الاختراع لازالت لم تحول إلى منتجات ذات قيمة تنافسية.
ويبدو أن أبرز عوامل الضعف الواضحة تتمثل في تدنى مستوى التواصل بين مراكز البحث والتطوير من جهة وبينها وبين الجهات المستفيدة من مخرجاتها، مما أدى إلى عدم فهم المشكلات التي تتطلب البحث والمعالجة. وبدا ضرورة تغيير فلسفة مراكز البحوث بالاتجاه إلى البحوث التطبيقية خاصة التقنية، وحتمية انفتاحها على مراكز البحث والتطوير في الدول المتقدمة والتعاون معها في مشروعات بحثية ذات بعد إستراتيجي مباشر. ويبدو أن واقع الدراسات التي عالجت قضايا الإرهاب جاءت ضمن هذا النسق العام والواقع المتدني للبحث العلمي عامة في البلدان العربية والنامية وأن التداعيات والعوامل مشتركة لظاهرة الإرهاب عامة والإرهاب الإلكتروني خاصة. وشارك في تعميق الظاهرة أن إسهامات البحوث والدراسات في تغطيتها وتشخيصها وتقديم الحلول المناسبة لها لم تزل محدودة وأن التهديدات والمخاطر والتحديات الإرهابية لا زالت لم تُبحث بطريقة منهجية متخصصة وأن نتائجها ليست ذات دلالة إحصائية يمكن الاعتماد عليها. وكأن هذه البحوث والدراسات في مرحلة المحاولات التي تحتار في كيف تبحث هذه الظاهرة المعقدة بحثًا علميًا ومن أين تبدأ؟ بحيث تستند إلى بيانات ومعلومات متاحة وموثوقة، ومجتمع بحث محدد وعينة ممثلة له تمثيلًا حقيقيًا. لذلك لم تسهم البحوث والدراسات إسهامًا فعالًا في معالجة الظاهرة وتحييد عواملها الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقضائية والأمنية والإعلامية والبيئية والتقنية والسيبرانية. وظل إسهامها محدودًا للغاية وقد لا يكون يذكر لسبب جوهري أنها منفصلة عن السياسات الأمنية وبدأت باهتمامات أكاديمية وانتهت بها لذلك لم تصل إلى نتائج أو تقدم توصيات عملية قابلة للتطبيق وواقعية من الناحية العلمية والعملية والإدارية والتقنية. إضافة إلى غياب التنبؤ والاستشراف بمستقبل واتجاهات الإرهاب عامة والإلكتروني خاصة، وتعمق التنظيمات الإرهابية في الاستخدام الفعال للتقنية بطرق احتيالية يصعب السيطرة عليها، وعدم القدرة على تحديد مؤشرات الجريمة الإرهابية الإلكترونية وخصائص الإرهاب الإلكتروني الذي يتعاظم ولم يقدم البحث العلمي رؤية واضحة ومحددة حوله. كما أن جل الدراسات والبحوث ذات الصلة بالإرهاب بما فيه الإلكتروني أتى من أجل تجارة ثورة أسواق الإرهاب، وللحصول على مكاسب شخصية ومهنية ووظيفية وشغل مناصب عليا وليس لمعالجة ظاهرة تقتل مجتمع وتهدد كيانات وتحاول تشويهين وتعمل على محو حضارة وتدمير أمة.
يبدو أن معالجة تحديات الإرهاب الإلكتروني يأتي بداية في إطار معالجة هيكلية لكل تهديدات الإرهاب ذلك أن فجوة الإرهاب لم تزل واسعة وأمام المؤسسات البحثية ومراكز الدراسات والبحوث مجال أكثر اتساع لفهم شروط وظروف الإرهاب قبل الإرهاب نفسه. ومن ذلك مد جسور الحصانة الفكرية داخل دوائر الغلو والتطرف والجذب والتعرف، وتحييد دور إرهاب الأقارب في اختصار عمليات التعرّف وتسريع العمليات الإرهابية لتبديد «إستراتيجية الأهداف الإرهابية المتصاعدة والمتغيرة»، ومعالجة سبل سلب الإرادة «التنويم المغنطيسي» وأدواته وطرقه وأساليبه عبر قنوات الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي. والوقوف على عوامل كفر الحكام، ومراحل الإنذار في تكفير الحاكم، وعدم إقامة الدين، وعدم تطبيق شرع الله، والتعرف باستمرار على الأدوات الجديدة في التجنيد وطرق الانضمام للتنظيمات، وحجم مساهمة التوتير والفيس بوك والإنستغرام ومواقع الإنترنت والإعلام الجديد في الترويج للإرهاب وتنظيماته. وتتبع مراكز قوة التنظيم الإرهابي جغرافيًا. وكيفية نمو الإرهاب في المناطق العشوائية والهامشية. وكشف مواطن نشوء فكر التطرف والإرهاب ضمن المناطق والأحياء السكنية لعناصر منفذي جرائم الإرهاب. والوقوف على مصادر وقنوات تمويل الإرهاب وطرق نقل الأموال وتهريبها ونوعية الأنشطة التي تدر الأموال على تنظيمات الإرهاب وحجم تلك الأنشطة في منظومة الاقتصاد المحلي والإقليمي والدولي.
الإرهاب في الإقليم ودور الدول الإقليمية المشعلة لجذوته، وسلوك حزب الله وأذرعه في الخليج والمنطقة العربية، والإرهاب الدولي واتجاهات الإرهاب بعد حرب روسيا على أوكرانيا، وتجذر الإرهاب حتى الوصول إلى الجيل الرابع من الإرهابيين، وأدوات الضغط على الإرهابي وآليات إرغامه ليستمر في حظيرة التنظيم الإرهابي. كل هذه التحديات وغيرها مما يوسع دائرة الإرهاب ويؤسس للإرهاب الإلكتروني ويبرزه كمهدد حقيقي لمعطيات التكنولوجيا وبرامج التقنية على صناع سياسات مكافحة الإرهاب ومراكز البحوث الدراسات الإحاطة بها وإخضاعها للدراسة والبحث والتفنيد والتقصي لتحييد تهديدات ومخاطر الإرهاب الإلكتروني قاتل أهم مقومات حضارة اليوم «التقنية وبرمجياتها» المُسيرة لكافة نظم الحياة في العالم المعاصر.