سليمان الجاسر الحربش
في حياة أهالي الرس أيام لاتنسى، يأتي في طليعتها صمودهم الأسطوري في عام 1818 ميلادية أمام جحافل الغزاة من جيش إبراهيم باشا للدفاع عن مدينتهم، ومع إطلالة هذا الشهر الكريم يتذكر الأهالي يوماً تاريخياً آخر في حياة هذه المدينة، ومعركة أخرى ضد عدو لا يقل ظلماً وظلاماً هو الجهل، ذالكم هو يوم افتتاح أول مدرسة ابتدائية حديثة، حدث استغرق الشهر كله من عام 1363 هجرية.في عدد سابق من هذه الصحيفة (29-5-2008) رثيت صديقاً لا زال ماثلاً أمام عيني، شامخاً بعلمه الرفيع، وسلوكه الشريف، وحبه لوطنه واعتزاز كل من يعرفه (مثلي) بأسرته وعميدها المرحوم حمد المالك.
في تلك المقالة عن المرحوم الدكتور صالح المالك، تذكرت بكل الوفاء ما قدمه عميد الأسرة لمسقط رأسه من خدمة جلّى وهي تحقيق حلم نقل المدينة من الظلمات إلى النور يوم افتتاح مدرسة الرس السعودية.
وعرضت في تلك المقالة رحلة أول مدير لها وهو قادم مع والدته من عنيزة على ظهر قعود أملح في شهر رمضان المبارك وهو يصادف شهر أغسطس. ويضيف زميل الدراسة وصديق العمر محمد الدخيل المالك (أبو أحمد) أن «ابن عرفج استأجر القعود من حمد العرزون من أهالي الرس», ركبت والدته ومامعه من متاع على ظهر القعود ورافقهم هو مشياً على الأقدام. يا لها من رحلة مضنية في عز الصيف لتحقيق هدف نبيل.
في الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك من عام 1363 هجرية افتتحت المدرسة السعودية بالرس بحضور جمع من الأهالي، وبدأت الدراسة بعد العيد.
كنت وقتها طفلاً لم أشهد ذلك اليوم لكنني التحقت بالمدرسة وأنا لا زلت في سن مبكرة وتخرجت وأنا كذلك. كانت دفعتي هي الثالثة، لم يبق من زملائي على قيد الحياة إلا أربعة هم محمد الدخيل المالك ومحمد السليمان الضويان وناصر الصالح العمري وسليمان الحمد المالك. كان ذلك اليوم من رمضان يوماً مفصلياً بمعنى الكلمة ليس في تاريخ تلك المدينة وإنما في تاريخ المملكة كلها إذ أنه مثل حي على معركة البناء العظيمة التي أعقبت توحيد المملكة على يد رائد نهضتها الملك عبدالعزيزطيب الله ثراه وما شهدته الرس في ذلك اليوم تكرر في عدة مدن من مملكتنا الحبيبة، كان التعليم هاجساً ملحاً لدى الملك الراحل. كان من حظ مدرسة الرس السعودية أن قيض الله لها مديراً سبق عصره وهو المرحوم الأستاذ عبدالله العبدالرحمن العرفج أو ابن عرفج، وهو أديب وشاعر مجتهد أنشأ المدرسة وأضفى عليها منذ البداية ملامح التحديث الذي أصبح فيما بعد سمة من سمات التعليم في المملكة، ومن ذلك ما يعرف بالنشاط اللا صفي مثل الرحلات والمسابقات والأناشيد والحفلات الموسمية والألعاب الرياضية في عام 1370 هجرية زار مدينة الرس الأمير الشاعر عبدالله الفيصل بدعوة من صديقه أمير الرس فيما بعد المرحوم حسين العساف وأقامت المدرسة حفلاً بهيجاً حضره أولياء أمور الطلاب وهم كل الأهالي إذ لم يكن في المدينة غير تلك المدرسة. بدأ الحفل بتلاوة آي من الذكر الحكيم وهي الآيات الأربع الأولى من سورة الفتح يرتلها الطالب فهد العيسى. ثم وقف المدير أمام الأمير وأطلق عقيرته بصوت جلجل في أنحاء المدينة:
تحية من يشرفنا سلام
ومرحى كلما سجع الحمام
ولولا الغيث حل بنا لكنتم
لنا أن أخلف الغيث الغمام
ولكن المشيئة أسعدتنا
فجاد الغيث والغوث الهمام
لم يبق في ذاكرتي من هذه القصيدة بعد ثمانين عاماً سوى هذه الأبيات فمعذرة, وقف الشيخ حمد المالك وبدأ يصفق، فوقف الجميع وصفقوا لأول مرة، معظمهم لا يدرك معنى هذا السلوك الغريب، وبعضهم استهجن هذه العادة لأنها في نظرهم من قبيل ما ورد في الآية الكريمة (وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاءً وتصدية). كان المدير ابن عرفج يشجع المواهب ولذا أدخل من ضمن النشاط اللا صفي التدريب على الخطابة والتمثيل الذي يحاكي جانباً من تراث العرب كان النشيد الجماعي هو:
فيحان يا رمز العلا
يا دار أجواد الملأ
يصدح بها المرحوم إبراهيم العجيمي الذي اختاره ابن عرفج ليقود فرقة الإنشاد لصوته الرخيم. وفيحان هو الاسم الفولكلوري لمدينة الرس. كان من نصيبي أن ألقي خطبة الاستقبال وقد ورثتها من المرحوم الأستاذ صالح المحمد العايد مدير عام الامتحانات بالرئاسة العامة لتعليم البنات (سابقاً) عندما تخرج ضمن الدفعة الثانية، وأذكر أن المدير استدعاني وذهبت إلى مكتبه وأنا أرتجف فأمرني بمقابلة صالح العايد وأذكر أن المرحوم استقبلني عند عتبة باب منزلهم القديم في مدخل السوق القديم ونسخ لي الخطبة التي يحفظها عن ظهر قلب ومطلعها:
«أيها السادة الأجلاء لقد عم السرور والابتهاج هذا النادي العلمي الشريف بنقل خطواتكم الكريمة وتشريفكم لنا»، واضح أنها من تأليف المدير ابن عرفج إذ لا أظن أن في الرس في تلك الحقبة من يستطيع كتابة مثل هذه الكلمة وهي متواضعة في أسلوبها لكنها تنتمي لجيل غريب علينا.
وفي آخر الكلمة أعود لأشكر الحاضرين «وأتمنى من الله عز وجل أن يديمهم مثالاً للكمال والوفاء» ثم عليّ أن التفت نحو جموع الطلاب وأقول:
وختاماً اهتفوا معي أيها التلاميذ:
يحيا جلالة الملك المعظم
يحيا الرجال العاملون
تحيا الراية العربية
لازلت أحتفظ بهذه الكلمه بخط المرحوم صالح العايد. ورحم الله أم سليمان ست الحبايب (مربية الأجيال) والدتي الحبيبة التي كانت تسهر بجانبي على ضوء السراج وأنا أراجع الخطبة لكي أحفظها عن ظهر قلب كما كان يفعل سلفي. ثم تتوالى الخطب ومنها ما هو مدعاة للتفكه إذا تعرفنا عن كثب على الطالب الذي سيلقي ومن ذلك:
محاضرة عن ضحكه عليه الصلاة والسلام للطالب سليمان المالك أغلب الظن أنها مجاملة لوالده الراعي الحقيقي للحفل وإلا فإن أبا منصور أبعد ما يكون عن هذا اللون من الخطب.الأخ سليمان المالك بزّ أقرانه في مادة الحساب لكن نصيبه من علوم اللغة أو الحديث لا يذكر وواضح أن من أعد البرنامج يسمع بكلمة محاضرة ولا يدري ما هو مدلولها, إذ تتوالى المحاضرات من صالح الضلعان وعبدالعزيز الصالح الرشيد وعبدالله الرميح ومنصور الحبس، وكلها مأخوذة بالمسطرة من مقرر المحفوظات أو كتاب الحديث، لكن أثرها كان واضحاً في تدريب تلاميذ المدرسة على فن الخطابة والحديث أمام الجمهور، بصرف النظر عن المضمون.
وأذكر أن أكثر المحاضرات إثارة تلك التي يلقيها عبدالله المحمد الحناكي المشهور بلقبه «جهيّر» عن الإيثار على النفس لأنه يلقي وكأنه يمثل في مسرح تساعده لغة الجوارح التي يتقنها، ومزاج لا يعرف التردد أو الخجل، كنت أحسده على جرأته ورباطة جأشه.
ومن الملاحظات التي تستحق التنويه أن للأستاذ علي الصالح الضلعان مساعد المدير أو نائبه كلمة، ولا أدري كيف وافق على أن يلقي خطبته بعد قصيدة للمتنبي يلقيها الطالب المرحوم علي العبدالله المالك، أغلب الظن ألا أحد يعرف من هو المتنبي كما نعرفه الآن.
وللمحاورات نصيب من الحفل يأتي في مقدمتها محاورة على شكل تمثيلية بين عبدالعزيز العبدالله المالك وصالح الإبراهيم الغفيلي عن فراسة البدوي أذكر أول كلمة يتلفظ بها عبدالعزيز المالك: «من عيّن البعير». ويختتم الحفل بتمثيلية عن كسرى والطبيب العربي الحارث بن كلده يؤديها الطالبان عبدالله العلولا وفهد العيسى.
أذكر أن المرحوم عبدالله العلولا (كسرى) يعتمر تاجاً مطرزاً بشرائط لامعة وكأنها ذهب أصلي وهي من فضلات أغلفة الأقمشة التي كان ابن عرفج يحصل عليها من دكان أبو غرير. ثم يختتم الحفل بكلمة المدير ثم تلاوة من القرآن الكريم هذه المرة يرتله بصوت جماعي طلاب السنة الخامسة.
تخرج من هذه المدرسة العديد ممن أسهموا في خدمة هذا الوطن الغالي في شتى المجالات تحية لهم وتحية خاصة للزملاء الأربعة الباقين على قيد الحياة، ولكل من شنّفت سمعه صفارة صالح القريان، وسلاماً خاصاً وشكراً من القلب لكل من أستاذي صالح الحمد المالك الذي كافأني في السنة الأولى بقلم رصاص مستعمل عندما نطقت فعل «قطع» المكتوب على السبورة قافاً فصيحة وقد عجز غيري، والأستاذ محمد الحمد المالك الذي تتلمذت على يده في السنوات اللاحقة وهما الباقيان من الرواد، والرحمة والرضوان لأرواح كل من علمني حرفاً في تلك المدرسة الغالية على نفسي، ومرحى كلما سجع الحمام للأستاذ الرائد عبدالله العبدالرحمن العرفج. رحمه الله وأسكنه جنات عدن تجري من تحتها الأنهار. وكل الحب لمدينتي الحبيبة الرس مرتع الطفولة والصبا، رمز الكرامة والصمود وعاشت بلادي وملكها المفدى سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان. كانت مدرسة واحدة في عام 1363 هجرية وبعد ثمانين عاماً صارت الرس تحتضن بين دفتيها عشرات المدارس والمعاهد والكليات المتخصصة، نموذج لنهضة شاملة جاءت الرؤية على يد خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين لتجعلها نظام حياة خاضعاً للرصد والتحديث والمتابعة. عاشت بلادي حرة أبية.