سراب الصبيح
نشرت الدكتورة رحمة القرشي مقالا بعنوان «بلاغة الاستماع» على صفحات الجزيرة الثقافية في ديسمبر من عام 2021. وقد عرفت الدكتورة رحمة نبيهة في علم البلاغة، ودائما تشير إلى ملاحظات مهمة تثري الدرس البلاغي، كمقالها هذا.
لقد عرضت في هذا المقال عرضا تاريخيا لبلاغة الاستماع، متوقفة على محطاته عند علماء اللغة، وعلى تبلوره بينهم عبر امتداد التاريخ في إرثنا العربي، وهنا سأقدم مناقشة لفكرته.
بلاغة الاستماع موضوع جدير بالعناية، وحقيقة لم أقرأ قبل مقال الدكتورة القرشي مقالا ولا كتابا ربط الاستماع في البلاغة، فالاستماع مهارة من مهارات التواصل؛ وبذلك فهو علم مدروس في عدد من المقررات الجامعية، ولا شك أن البلاغة تدخل به، لكن بقدر طفيف، أما دراسته في المعيارية البلاغية التي قدمتها الدكتورة، فإني لم أعرف من سبقها في ذلك -على حد اطلاعي المتواضع حتى الآن-.
سأشير إلى عدة نقاط تناقش فكرة المقال «بلاغة الاستماع»؛ فإن اللغة هي أداة تواصل في الأساس، ولم تكن لغير ذلك، أما القوالب التي يُفرغ بها التواصل اللغوي؛ منها المنطوق/ المسموع، ومنها المكتوب/ المقروء. وبذلك فإن أي بلاغة تضمنتها اللغة، إنما هي بلاغة منوطة باللغة لا بالقالب.
أقصد بذلك، أن الأساليب البلاغية التي يتضمنها الخطاب إن كان مقروءا من الكتابة أو مسموعا من القول، سيبقى هو الخطاب نفسه مع اختلاف قوالبه. وإنما يعزى التفشي إلى نمطية العصر، فإن عصرنا اليوم مكتوب أكثر منه منطوقا؛ ولذلك فإن دراسات البلاغة تتناول الخطابات المكتوبة، في حين أن العصور التي سبقتنا فإن الوراقة بها أقل منها اليوم؛ لذلك كان يتفشى الخطاب المسموع، فتربط بلاغة اللغة به.
هذا أمر أردت الإشارة إليه فقط؛ لا لغاية الاستغناء عن «بلاغة الاستماع»، بل لغاية توضيح القوالب اللغوية فقط. وأعود الآن إلى «بلاغة الاستماع»؛ لأقول إنها تتميز ببلاغة منوطة بها لا بقالبها، فاللغة في القالبين واحدة، لكن هناك بلاغة تمكنها القوالب، فمثلا «بلاغة الاستماع» يمكن أن تتناول التأثير في مستويات الصوت، وأيضا في لغة الجسد، كما أنها تتضمن التدفق الخطابي والتسلسل الموضوعي وبلاغة الارتجال في سرعة البديهة، وغير ذلك مما تختص به دون القالب الكتابي.
وأيضا من الممكن أن تتوسع «بلاغة الاستماع» لتشمل النص وقائله وسامعه، فإنها بهذا الاسم تدرس الشريحة المتلقية، لكن كما أشرت في الفقرة السابقة فإن النص المنطوق، يمكّنه قالب النطق من بلاغات خاصة به، لكنه يرتبط بالقائل لا بالسامع؛ ولذلك من الممكن أن يتوسع مشروع «بلاغة الاستماع» ليدرس عملية تفاعلية بين النص الشفوي والقائل والسامع.
وهي بذلك -أي: بلاغة الاستماع- من الفتوح الجيدة في الدرس البلاغي، والتي تتطلب جهدا كبيرا. كما أن دراستها في العصور السابقة ستكون دقيقة التنقيب، وعرة المسالك؛ لأن المادة المسموعة ليست في متناولنا، وبذلك سنضطر إلى جمعها من خلال ما دونته الكتب عن الخطابات الشفهية في المجالس وغيرها، وبذلك ستكون الدراسة دراسة بلاغة مسموعة في مدونة مكتوبة، وهذا شيء متشابك ودقيق، لا يقدر عليه إلا قارئ حصيف، وباحث نبيه.
لقد حثت الدكتورة رحمة القرشي الباحثين في نهاية مقالها لتناول هذا الموضوع، وأنا أيضا أضم صوتي لها في هذا الحث، وأقترح على الباحثين الجادين ممن يقرأون هذا المقال أن يدرسوه في بحث مشترك بينهم؛ فهو موضوع شائك وماتع في آن، ومن حقه أن يحظى بالاهتمام. وهنيئا للدكتورة رحمة القرشي على هذا الموضع الفريد.