د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
قال التفتازاني: «فمفهوم قولنا: (كلما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود)
باعتبار أهل العربيّة: الحكمُ بوجود النّهار في كلّ وقت من أوقات طلوع الشمس، فالمحكوم عليه هو النّهار، والمحكوم به هو الوجود.
وباعتبار المنطقيين: الحكم بلزوم وجود النّهار لطلوع الشمس، فالمحكوم عليه طلوع الشمس، والمحكوم به وجود النّهار، فكم من فرق بين الاعتبارين؟». (مختصر المعاني 2/ 13)
هذا نصٌّ على اختلاف ما بين فهم العرب والعجم، وأنّ الأعجميّة والعربيّة ليست بوجود أصوات الألفاظ، بل قد يكون المنطوق عربيًّا لكنّه مبنيٌّ أو مفسِّرٌ بفهمٍ أعجمي.
وتفسير جملة (كلما كانت الشمس طالعة فالنّهار موجود) باعتبار أهل العربيّة واعتبار المنطقيين تأكيدٌ على أنَّ الكلام العربيَّ قد يفهم بفهمٍ غريبٍ عن فهم أهله.
وفهم أهل العربيّة للجملة يدلُّ على أنّ الوجود للنهار مرتبطٌ بوقت وجود الشمس، بينما فهم المناطقة بدلُّ على أنّ وجود النّهار مشروطٌ بطلوع الشمس فلا وجود للنهار إنْ لم تكن الشمس طالعةً، وهذا يخرجُ اليوم الغائم من الحكم بوجود النهاريّة.
ومعنى الجملة عند المناطقة: الشمس طالعة إذن النهار موجود،. بينما عند أهل العربية أي وقتٍ من أوقات طلوع الشمس فهو نهار، أي: النهارُ في كل وقت من أوقات طلوع الشمس موجودٌ.
ونرتبها من جديد:
المناطقة: وجود النّهار مشروط بطلوع الشمس.
أهل العربية على تأويل التفتازاني: النهارُ في كل وقت من أوقات طلوع الشمس موجودٌ.
يلزم من فهم المناطقة أنّ اليوم الغائم ليس نهارًا لعدم طلوع الشمس، وساعات غروب الشمس حين تبقى الدنيا مضيئةً وقرص الشمس غائبٌ ليس نهارًا، ولا يلزم ذلك من فهم أهل العربية.
فأيُّ الفريقين أحسنُ فهمًا وأحسنُ بيانًا؟!
وقد ذكر التفتازاني أنّ الشرط قيدٌ لحكم الجزاء عند أهل العربية، وذكر أنَّ «ما يقال من أنّ كلًّا من الشرط والجزاء خارجٌ عن الخبرية واحتمال الصدق والكذب، وإنما الخبر هو مجموع الشرط والجزاء المحكوم فيه بلزوم الثاني للأول فإنما هو اعتبار المنطقيين».
واعتبار المنطقيين في الجملة الشرطيّة يقوم على أنّ الشرط لا يكون قيدًا لحكم الجزاء إلا بشروط: الدلالة على التعليق، الدلالة على التّرتب، الدلالة على اللزوم.
ومن أمثلة المناطقة على الجملة الشرطية التي توفّرت فيها الشروط الثلاثة قولهم: (إذا طلعت الشمس وجد النّهار) ويلزم عليها ما يلزم على جملة التفتازانيّ (كلما كانت الشمس طالعةً كان النهار موجودًا)؛ إذ طلوع الشمس ليس منشأً لوجود النّهار.
وأقول بعد هذا كُلّه: في نفسي شيء من قول التفتازاني أنّ أهل العربية يفهمون أنّ الشرط قيد للجزاء في جملة (كلما كانت الشمس طالعةً فالنهار موجود)؛ لأنّ منشأ النّهار ليس طلوع الشمس، وليست هذه الجملة من طريقتهم في الكلام، وهذه الجملة لا تراعي أنّ طلوع الصبح متقدِّمٌ على طلوع الشمس، وهما نهار.
وأعجبني كثيرًا كلام الشيخ ابن باز رحمه الله في جوابه عن السؤال التالي: بالنسبة للبرنامج اليومي للمسلم هل يبدأ من قيام الليل أو من صلاة الفجر؟
والجواب هو: «من طلوع الفجر، الأذكار من طلوع الفجر، والليل من غروب الشمس، وآخر النهار تَبَعُ الليل، وأول النهار تَبَعُ النهار، لو فعله بعد الصبح أو بعد طلوع الشمس كله طيب، يكون أول النهار يصدق عليه إلى وقوف الشمس إلى زوال الشمس، وبعد الزوال، كله تبع المساء إلى أول الليل أثناء الليل».
واخترتُ ابن باز رحمه الله لطول معايشته النصوص العربية الفصيحة الصحيحة من كلام رسول الله? وآثار الصحابة والتّابعين؛ لأنّ معايشة النمط العربيِّ من الكلام الذي نزل عليه التحدّي موجودٌ في كلام رسول الله? وكلام الصحابةِ أصالةً، وظاهرٌ ناصعٌ مشرقٌ في كلام التابعين لهم بإحسان.
إذن، نخلص إلى أنّ التفتازاني جعل الجملة التي يصوغها المناطقة أصلًا في فهم كلام أهل العربيّة (النحو واللغة والصرف...)، ولم يقصد بقوله (أهل العربيّة) العرب الذين يتكلمون بها فطرةً، وهذا تفريغ العلم من كلام العرب.
والأصلُ أنْ يدرس كلام العرب لا أنْ يُصاغ كلامٌ من ألفاظٍ عربيّة على طريقة المناطقة في الكلام ثم يقال هكذا يتكلم العرب, ولعلَّ كثرةَ التمثيل بأمثلة مصنوعة أحدُ الأسباب التي تمكّن التفكير الأعجمي من الدخول إلى علوم العربيّة، ولعلّ أشهر تلك الأمثلة مثال أبي يعقوب السكّاكيّ الشهير: (في الحمام أسد)، وهذا المثال وإنْ صيغ بألفاظ عربية إلا أنّه ليس مما تكلَّمت به العرب، وليس من سننها في كلامها؛ إِذْ إنّه مثالٌ لم يتوفَّر في بيئة العرب ما يقومُ به، وليس من طريقة العرب أنْ يصفوا بالشجاعة من يجلس (في الحمّام).
وقد أجهدتُ نفسي اليوم في فهم الفرق بين فهم أهل العربية وفهم المناطقة في جملة (كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود)، ووصلتُ إلى أنّ العرب لا يتكلمون بهذه الجملة؛ لأنّ النهار لا ينشأ عندهم بطلوع الشمس، ووضعتُ كلام ابن باز رحمه الله لنتفقّه في معرفة النهار بداية ونهاية وأنّ الشمس تكون في وقت النّهار طلوعًا وغيابًا وغروبًا.
وقمتُ بقراءة الآيات التي فيها كلمة (كلما) فما وجدتُ موضوعها مثل موضوع جملة التفتازاني (كلما كانت الشمس طالعة فالنهار موجود)، وإنْ كانت الصورة متطابقة، وليس الكلام العربي اتفاق الصور ولا استعمال الألفاظ العربية، بل هو شيء أبعد من ذلك ومن الذين ألمحوا لهذا البعد العربي في الكلام ابن الأثير حين تكلّم عن دواعي العكس في التشبيه، وأنّه لا يكون إلا فيما اشتهر من كلام العرب، أي: لا تستطيع قلب التشبيه في قولك: (ورملٍ كأوراك العذارى) ما لم يكن مشهورًا في كلام العرب أنّهم يشبهون (أوراك النساء) بكثبان الرمال.
وهذا الباب الذي أشار إليه ابن الأثير يصلحُ أنْ يستصحب إلى موضوع (المقاربة في التشبيه) في عمود الشعر العربي، وهو الباب الذي عيب على أبي تمام فيه بأنّه يقول شعرًا ليس على طريقة العرب في كلامها. والله أعلمُ بالصواب، وعسى ربُّنا أنْ يهدينا سواءَ السبيل.
** **
- جامعة الحدود الشمالية.