جواهر الرشيد
إنَّ المجموعاتِ القصَصِيَّةَ عندَ -جبران خليل جبران- تنوَّعت ما بين سياسيَّةٍ وثقافيَّةٍ وفلسفيَّةٍ ومجتمعيَّة، لكنَّ القضايا الاجتماعيَّةَ طغَتْ في نثرِهِ الأدبِيّ؛ سَاعِيًا عن طريقِه إلى عصيانِ التَّقاليدِ العربيَّةِ القديمةِ مُتأثِّرًا بفلسفةِ الغربِ. فقد لجأَ إلى النَّثرِ في نشرِها؛ لأنَّ -القارِئَ- يستطيعُ فيه أنْ يُمثِّلَ نفسَه بواسطةِ الذَّاتِ المباشرةِ في القصَّةِ المرويَّةِ مُحلِّقًا به خيالهُ الذِّهني إلى مَا هو أبعدُ من واقعِ الحياةِ والقصَّة. فالذَّاتُ عندَ جبران هي صاحبةُ رسالةٍ مزَجَها بين الحقيقةِ والخيالِ بواسطةِ قصةٍ تُمثّلُ شخصياتٍ متنوِّعةً بعقولِها المختلفةِ مُعبِّرةً عن نقدِه لقضايا المجتمع.
تُذكَرُ لبنانُ فيُذكَرُ جبرانُ الشَّاعرُ والكاتبُ الذي عبَّرَ عن مرامِيه في سلسلةٍ من السِّيَاقاتِ الفنَّيةِ والإبداعيَّةِ المترابطةِ، مُترَئِسًا رؤيتَه العميقةَ ثائرًا على النَّواميسِ متَّجِهًا نحو الاستحداثِ والحريَّةِ للإنسانِ بلا حدود، والذي رَمَى إلى بناءِ مجتمعٍ مسالمٍ يسودُه الحبُّ والعدالة، فكانت الإنسانيَّةُ مبدأً ظاهرًا جليًّا في كتاباتِه، وكان الحبُّ ديدنَه وأسمى غاياتِه.
إنَّ المحبَّةَ نوعان: محبةٌ فاسدةٌ تجلبُ المشقَّةَ والمضرَّةَ، ومحبةٌ محمودةٌ تجلبُ السَّعادةَ والهناء. وإنَّ المحبَّةَ المحمودةَ تجعلُكَ تسيرُ بكلِّ جوارحِك إلى طريقٍ تُرضي به المحبوب، فكلّما قويَ الحبُّ قويت الإرادةُ وزادَ الاتِّصال، وهذه المحبَّةُ لا تقوم إلَّا بين النُّفوسِ التي توافَقت في الصِّفاتِ والأخلاق، فلن يقعَ الحبُّ بين أرواحٍ لم تُستحسَن ونفوسٍ لم تُمتزج؛ لأنَّ الحبَّ لا يعرفُ الجهالةَ بين النّفوس، وكمَا ذكرَ ابنُ حزم- أنَّ المجانسةَ بين النُّفوسِ -عنصرٌ هامٌّ في وقوعِ الحبِّ، فكلَّمَا كثُرَت الأشباه زادَت المجانسةُ وثَبتَت المودَّةُ، أمَّا من ودَّكَ لأمرٍ ما في فترةٍ ما فسيُولَّى هذا الحبُّ بزوالِ الأمرِ وانقضاءِ الوقت. ولا رَيبَ أنَّ أصعبَ ما قد يواجهُ إنسانًا على هذه الأرض ألّا يجدَ الحبُّ في قلبِه مكانًا، ولا يشعر به بين أهلِه وأصحابِهِ أو مجتمعِه، فيكفُر بالإيمانِ بهِ ويشعرُ باليأسِ نحوَه، يقولُ جبران:
«والحبُّ في النَّاسِ أشكالٌ وأكثرُها
كالعشبِ في الحقلِ لا زهرٌ ولا ثمرُ»
في روايةِ (الأجنحة المتكسِّرة) أيقظَت -سلمَى كرامة- روحَ جبران، فأرته خفايا الحبِّ حتى أبدلَتْ حياتَه من حياةٍ خاليةٍ مقفرةٍ إلى جنَّة من المودَّةِ والمحبَّة.. المحبَّةُ التي يجمعها تجانسٌ روحيٌّ طاهرٌ يتَّفِقُ فيه طرفَاه في السَّرائرِ ويتبادلانِ مشاعرَ الوجدِ والاشتياق، يقولُ جبران: «إنَّ المحبَّةَ الحقيقيةَ هي ابنةُ التَّفاهمِ الرُّوحيّ وإنْ لم يتمّ هذا التَّفاهمُ بلحظةٍ واحدةٍ لا يتمّ بعامٍ ولا بجيلٍ كامل.» لكنَّ حبَّ سلمى لجبران حبٌّ يائسٌ لم يُحظَ بنهايةٍ سعيدة، وضحيَّةُ هذا الحبِّ هي -سلمى- المرأةُ الشرقيَّةُ الثَّريّةُ التي خضعَت رُغمًا عنها إلى طاعةِ والدِها فتزوَّجَتْ من ابنِ صديقِه الفاسدِ الطَّمَّاعِ الذي ورَّثَ ابنَهُ صفاتِ المكارهِ والمفاسد، فكانَ رجلًا مادِيًّا قاسِيًا، لكنَّ الحبَّ بين جبران وسلمى ظلَّ صامِدًا في قلبَيهِمَا حتَّى تركَتْ سلمَى لجبران ذكرياتٍ أليمةً ملأَتْ أعماقَ صدرِهِ أسىً خلفَ أشجارِ السَّرْوِ يَبكِيها ويَرثي أوجاعَه إليها، فكانَ الفراقُ بدايةَ هذا الحبِّ ولُبَّهُ ونهايتَهُ، والإخلاصُ عنوانَه وأساسَه.
هذا هو الحبُّ الجبرانيّ..! جُبِلَ على الكآبةِ وانتهى بها، مقرونًا بأملٍ حزينٍ، مُقدَّرًا باجتماعِ الرُّوحِ دونَ لقاءِ الجسد، مؤمنًا بقلبِ المرأةِ، مُدرِكًا خفاياه دون شكٍّ به، يقول: «إنَّ قلبَ المرأةِ لا يتغيَّرُ مع الزَّمن ولا يتحوَّلُ مع الفصول. قلبُ المرأةِ ينازعُ طويلًا ولكنَّه لا يموت. قلبُ المرأةِ يُشابه البريَّة التي يتَّخذُها الإنسانُ ساحةً لحروبِه ومذابِحه، فهو يقتلعُ أشجارَها ويُحرِّق أعشابَها ويُلطِّخُ صخورَها بالدِّماء ويغرسُ تربتَها بالعظامِ والجماجمِ، ولكنَّها تَبقَى هادِئةً مُطمئنةً ويظلُّ فيها الرَّبيعُ ربيعًا والخريفُ خريفًا إلى نهايةِ الدُّهور...»