خالد بن حمد المالك
أصبحت باريس، وفرنسا كلها، حالة مستعصية على استيعاب ما يجري فيها من مظاهرات لا تتوقف على مدى شهور السنة، فالأسباب، والتنفيذ، ثم النتائج، وما يلي ذلك من تداعيات كلها تشير إلى غياب العقل بتأثير من مبدأ حرية الإنسان كما يزعمون.
* *
حسناً لتكن الاحتجاجات كحق مشروع للمواطن الفرنسي في التعبير عن مواقفه، وإظهار رأيه للملأ، وكردّ فعل لعمل يراه مضراً بمصالحه، حتى وإن رأت الحكومة غير ذلك، لكن احترام الاحتجاجات لدى العقلاء وتفهمها حين تكون وفقاً للدستور، وبما يتماشى مع القانون والنظام، وليس التخريب، والاعتداء على حرية الآخرين.
* *
الحرية تنتهي، ولا يكون لها معنى أو مبرر، حين تتجاوز الخطوط الحمراء، وتتجه نحو الإضرار بالغير، أو حين تخالف النظام العام، بالاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، واستحلال سرقة ما تصل إليه الأيدي في المتاجر والمحلات التجارية، وهو ما يحدث في المظاهرات والاحتجاجات في فرنسا.
* *
الإضرابات المليونية التي حدثت الأسبوع الماضي في المدن الفرنسية إثر تعديل قانون سن التقاعد، لم تكن - بنظرنا - تستحق ردّ الفعل العنيف من المتظاهرين، فزيادة ثلاث أو أربع سنوات على ما كان مقرراً للتقاعد لن يُلحق الضرر بالمتقاعدين في المستقبل، وفي المقابل فإن إصرار الرئيس ماكرون على هذا التعديل في قانون التقاعد لم يكن قراراً متوازناً طالما أنه سيثير مشاكل كهذا الذي يحدث في العاصمة الفرنسية وغيرها من المدن.
* *
ما يعنينا في التعليق على ما جرى في باريس الأسبوع الماضي، وسيتكرر هذا الأسبوع، أنه مهيأ للامتداد، ومحاكاته في دول أوروبية أخرى، ولأسباب أخرى، فالفوضى قد تنتقل من عاصمة إلى أخرى في دول أوروبا، وهو ما يثير خوف الجيران من أن يصل تأثير ذلك على بلدانهم.
* *
قال لي (صديق سعودي) بأن حواراً جرى بينه وبين أحد الفرنسيين حول هذه الفوضى في التعاطي مع تعديل قانون الانتخابات في فرنسا، مستغرباً ومتسائلاً عن عدم السماح للمظاهرات الاحتجاجية في المملكة، وكان ردّ الصديق عليه بأن الملك سلمان يحب شعبه، وأنه لا يريد إغضابه، ولهذا فهو لا يسمح بالمظاهرات التي تقود إلى التخريب، والعنف، وفقدان الأمن، وتمتد إلى ما هو أكثر من ذلك.
* *
أنا أزيد على ما قاله صديقي - وهو مهم - بالقول، بأن المواطن السعودي لا يقبل أن يُمسّ استقراره، وأمنه، وحقوقه بمظاهرات، ولهذا فهو أول من يرفضها، فضلاً عن أن مبررها غير موجود في المملكة، فالمواطن حقوقه مصانة، وطلباته مُلبية، وهو - باختصار - راضٍ كل الرضا عن القوانين والأنظمة التي تضمن له ما يريده.
* *
القوانين والأنظمة تختلف من دولة لأخرى، والثقافات والتقاليد تختلف هي الأخرى، وما يصلح لدولة ليس بالضرورة أن يناسب دولة أخرى، وكلّما أمعنا النظر ودققنا على ما تفضي إليه المظاهرات الاحتجاجية أدركنا حكمة قادتنا في المملكة ودول مجلس التعاون في سن الأنظمة والقوانين التي تصون حقوق الناس، وتحافظ على مكتسباتهم، وتجعلهم في دولهم في أمان من متقلبات الأمزجة لدى البعض.
* *
تجربة المملكة تستحق أن تحاكى، وتُروى، ويكتب عنها بالتفاصيل، اعتماداً على الشواهد، والتجارب، والنتائج، في مقابل العنف، والتخريب، وجر الناس إلى اقتتال شوارع بين المتظاهرين وقوات الأمن في فرنسا وغير فرنسا، وللتدليل على ذلك نتائج هذه المظاهرات الاحتجاجية المتواصلة في المدن الفرنسية.
* *
المقارنة إذاً بين أنظمة الحكم تكون واقعية بأخذ عينات مسحية مما تشهده دولٌ من أعمال شغب لا تتوقف، وأخرى حيث تنعم شعوبها بالاستقرار والهدوء، والتناغم بين رغباتها وما تقرره حكوماتها من تشريعات تضبط الأمن، وتحقق مصالح الناس.
* *
ولا يمكن لعاقل أن يقبل بتعطيل الخدمات في المطارات ووسائل النقل، وجعل الناس حبيسي منازلهم تحاشياً من أن يتعرضوا لإفرازات المظاهرات من إصابات, واستفزازات بحجة الحق في التظاهر والاحتجاج، وهي عادة تبدأ سلمية - وهو ما يسمح به قانون تلك الدول - وإذا بها تتحول إلى عنف، دون قدرة رجال الأمن على ضبط الإيقاع السلمي لها.