شهر رمضان هو الشهر الكريم الطيب المبارك الذي أنزل الله فيه خير كتاب على خير رسول إلى خير أمة، وضاعف الله فيه الثواب، ونصر فيه المؤمنين في أهم الوقائع الحربية، وهو الفريضة التي تتجدد كل عام؛ لنصل عن طريقها إلى مقام التقوى؛ فكل عام وأنتم والأهل والأحباب بخير وفي خير وصحة وعافية وستر ويسر وسعادة وقبول.
المعنى العام للصيام
الصيام طاعة لله على سبيل الفرض؛ توجب على المؤمن امتناعاً عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
وإن من يتفكر في معنى الصيام يجد عجباً؛ ومصدر العجب يتمثل في الحقيقة الواضحة من المعنى العام للصيام، وما فيه من كبحٍ لجماح النفس الأمارة بالسوء التي تلح في جر المرء إلى الشهوات؛ لينحط إلى دركات الهالكين، وتقوية لانطلاق الروح؛ ليرتفع المؤمن إلى درجات الملأ الأعلى.
التربية الربانية بالامتناع عن المباح:
من الواضح لمن يتدبر في معنى امتناع المؤمن عن شهوتي البطن والفرج في هذا الوقت المحدد من الله - عز وجل - يلحظ الآتي:
إن هذا الامتناع، امتناع عن حلال في غير هذا الوقت المخصوص، بمعنى أن المؤمن يستطيع أن يمارس ما أحل الله له من شهوتي البطن والفرج في أي وقت ولكنه يمتنع عن ذلك حال صيامه؛ استجابة لله - عز وجل - وفي هذا الامتناع حكمة تنادينا قائلة: إنكم امتنعتم عن الحلال المباح؛ فيجب أن تستحوا من الله - عز وجل - وتمتنعوا عن الحرام من باب أولى، إذ لا يعقل أن تمتنع عن الحلال ثم تقترف الحرام.
رافد روحي عظيم:
إذن الصيام بهذا المعنى درس عملي ورياضة فعلية جاءت من باب الامتناع عن الحلال؛ لنصل إلى النتيجة المطلوبة وهي: (الامتناع عن الحرام) ولذلك حدد الرحمن الرحيم الهدف من الصيام فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183: البقرة).
ومعلوم أن كل إضعاف للنفس الأمارة بالسوء وامتناع عن أهوائها؛ فيه تقوية لجانب الروح النورانية وإعلاء للمعاني الروحية التي تصل بالإنسان إلى مصاف الملائكة.
وفي الحديث المتفق عليه بيان مدى أثر الصيام في تهذيب سلوك الشباب وكبح هجمات الشهوات: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء».
إفساد معنى الصيام:
إن من القبح بمكان أن يمتنع الصائم عن الحلال ثم يندفع إلى ارتكاب الحرام، ومن أجمل الإشارات النبوية إلى هذا المجال: قول سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فيما ورواه البخاري: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». إذ كيف يدع طعامه وشرابه وهما في الأصل حلال ثم لا يدع ما هو من الكبائر كقول الزور وشهادة الزور وغيرهما من المحرمات.
إن البعض بهذا السلوك المنافي للحكمة من الصوم يستهلكون رصيداً كبيراً من ثواب صيامهم أو يفسدون الصيام من أصله، فقد روى النسائي وابن ماجة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش».
تحقيق معنى الانتصار:
وبهذا الابتعاد عن أهواء النفس ووسوسة الشيطان يمثل الصيام رافداً هاماً من أهم روافد الطاقة الروحية؛ لما فيه من وقفٍ لعادة النفس وانطلاقها في ملذاتها، وفيه تحقيقٌ لمعنى مجاهدة النفس والانتصار عليها وفي الأثر: «إن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر»؛ لأن من لم ينتصر على نفسه، لا يستطيع الانتصار على عدوه والمهزوم نفسياً مهزوم قتالياً قبل خوض المعركة.
إذا القلب لم ينصرك في كل موطن
فما السيف إلا آله حملها إدٌ
ومن عظائم فضل الله تعالى أن أهم الانتصارات الإيمانية تمت في شهر الصيام؛ حيث الصفاء القلبي الناتج عن الانتصار على النفس الأمارة بالسوء.
والإنسان بطبيعة تكوينه مجبول على عنصري الخير والشر والطاعة والمعصية بمثل ما هو مجبول على النوم واليقظة والصحة والمرض وهذا موطن الفتنة والاختبار لآدمية وإيمان الناس يقول الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} (7 : 10) الشمس.
فإما أن يرقى المؤمن بتزكية نفسه إلى المعارج الروحية العليا فيكون ممن: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} وإما أن يغلب عليه جانب الفجور فيكون ممن: {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} ولننظر إلى صيام الصالحين الذين اتخذوا من الصيام ملاذاً لتهذيب النفس وتزكيتها، وتقوية الجانب الروحي، إنها تجارب خرجوا منها بنتيجة سلوكية وتربوية هامة لابد من مباشرتها لكل سالك ألا وهي: «جهاد النفس ومحاربة هواها» وهم يستمدون ذلك من قول الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (37: 41 النازعات). ومن الأثر الوارد الذي يتمسكون به: «الجهاد الأكبر جهاد النفس» وقد أكثر هؤلاء السادة من الحديث عن النفس ومؤامراتها وحيلها الشيطانية من حيث إنها أمارة بالسوء بل إنهم قالوا عنها: «أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك». وقالوا:
توق نفسك لا تأمن غوائلها
فالنفس أخبث من سبعين شيطانا
وللإمام البوصيري - رضي الله عنه - أبيات بلغت قمة في الجمال تعبر عن خطورة اتباع هوى النفس كما تبين كيفية الانتصار على أهوائها ثم تربيتها وتهذيبها إلى أن تخضع وتستجيب للصواب:
وخالف النفس والشيطان واعصهما
وإن هما محضاك النصح فاتهم
لا تسترض منهما لا خصماً ولا حكماً
فأنت تعلم كيد الخصم والحكم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه
إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
وراعها وهي في الأعمال سائمة
وإن هي استحلت المرعى فلا تسم
كم حسنت لذة للمرء قاتلة
من حيث لم يدر أن السم في الدسم
والنفس كالطفل إن تهمله شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
نسأل الله تعالى أن يعافينا ويعفو عنا وأن يرزقنا بركات هذا الشهر الكريم وأن يعتق رقابنا من النار وأن ينصر الإسلام وينصر المسلمين على أنفسهم وعلى عدوهم.