محمد سليمان العنقري
للاستثمار قواعد وأسس ومعايير متفق عليها عالمياً وتعد هي البوصلة التي توجه المستثمرين ويستندون عليها بقراراتهم الاستثمارية وتوزيع أموالهم قطاعياً وجغرافياً, وكما أن ما يتمناه ويبحث عنه المستثمر تحقيق أفضل عائد, فإن الخسارة أمر وارد لظروف عديدة, فالأصل هو أن الاستثمار يحمل المخاطرة بكل الأحوال اي أن الربح والخسارة واردان, لكن تطبيق المعايير العلمية والعملية يساعد بتحقيق أفضل النتائج عموماً بالإضافة للتحوط للحماية من المخاطر, وبالنهاية ينظر المستثمر لاستثماراته على المدى الطويل ومحصلة نتيجته عند التخارج فليس بالضرورة أن تحقق كل الأصول اسهم أو عقار أو غيرها نفس مستويات الربح, وكذلك يمكن أن يحقق بعضها خسائر ولكن ينظر للمحصلة النهائية وفق استراتيجية الاستثمار طويل المدى.
وقبل أيام كان العنوان الأبرز في الإعلام العالمي هو أزمات البنوك في أميركا وأوروبا, والتي أثارت مخاوف من عودة أزمة مالية جديدة بالعالم, لكن سرعة التحرك من قبل الجهات التنظيمية بتلك الدول حتى اللحظة ساهمت بتخفيف أثرها, والعمل مازال مستمراً لاحتوائها, لكن هذه الأزمة أيضاً فتحت الباب على تساؤلات مهمة جداً للمستثمر الأجنبي تحديداً ممن وثقوا بتلك البنوك أو أسواق هذه الدول وضخوا أموالهم فيها.
فبعد أن طفت على السطح أزمة إفلاس بنك سيلكون فالي بأميركا, والتي كان من أسبابها الرئيسية الارتفاع المتسارع بأسعار الفائدة من الفيدرالي الأمريكي مع سوء بتوزيع استثمارات البنك من حيث الأوزان, حيث ركز على سندات الخزينة ولطبيعة البنك ونوعية عملائه الذين لديهم حركة كبيرة بحساباتهم أدى ذلك لانكشاف كبير له مع اضطراره لبيع تلك الاستثمارات بخسائر مما أدى لأزمة ثقة مع عدم قدرته على رفع رأس ماله, إلا أن الأزمة الأكبر كانت من بنك كريدي سويس السويسري وهو واحد من بين أكبر 30 بنكاً استثمارياً عالمياً حيث تدخلت السلطات التنظيمية السويسرية لمنع إعلان إفلاسه مما سيضر بسمعة النظام المالي السويسري الذي يعد ركيزة اقتصادها, بالإضافة للتأثيرات على بنوك أوروبية وعالمية أخرى لديها ارتباطات معه فتصبح كما أحجار الدومينو تتساقط تدريجياً وبذلك تنفجر أزمة مالية عالمية قد يصعب احتواؤها دون أن تخلف أضراراً كبيرة, فكان الحل الأول وهو الذي طبق بأن يستحوذ عليه بنك UBS السويسري بصفقة لاقت نقداً لاذعاً وقد حاولت وزيرة المالية السويسرية تبريرها إلا أنها انطوت على خسائر كبيرة لحملة أسهم البنك حيث منحوا سهماً ببنك UBS مقابل كل 22،48 سهماً من أسهم كريدي سويس وهي خسارة سيطول الوقت لتعويضها, لكن الملفت أكثر هو الموافقة على شطب 17،4 مليار دولار قيمة سندات حيث قالت هيئة الإشراف على الأسواق المالية السويسرية في بيان لها إن «سندات الدرجة الأولى الإضافية الصادرة عن كريدي سويس تنص تعاقديًّا على شطبها بالكامل في حالة وقوع الأحداث المهددة للأوضاع المالية، لا سيما عند منح دعم حكومي استثنائي وأضافت أنه نظراً لحصول البنك على قروض مساعدة مدعومة بضمان فيدرالي ضد التخلف عن السداد في 19 مارس، وجهت الهيئة البنك بخفض قيمة 16 مليار فرنك (17.4 مليار دولار) من هذه السندات إلى الصفر»، فالبنك وعد بهيكلة أعماله ومعالجة أخطائه منذ سنوات ولم ينجح بذلك, وتساءل المراقبون عن سبب إهمال السلطات لأوضاع البنك وعدم التدخل قبل وقت طويل لمعالجة مشاكله مما تسبب بخسائر للمستثمرين لابد أن تهز الثقة بالاستثمارات بالقطاع المالي السويسري الأكثر شهرة بالعالم من حيث الثقة والتميز, وذات الأمر بات يتعلق بالبنوك الأمريكية عموماً والمتوسطة الحجم منها خصوصاً ولعل الأخطر هو نظرة المستثمرين لكيفية المعالجات التي تتخذها السلطات لديهم والتي يمكن أن لا تراعي مالح المستثمرين وتنظر فقط لما يحمي المصالح الضيقة لاقتصادهم فقط مما قد يشكك بجدوى بقاء ليس فقط الاستثمارات الأجنبية لديهم بل حتى الودائع بالإضافة لعدم الثقة بأي منتج استثماري تسوقه بنوكهم على المستثمرين من خارج دولهم مستقبلاً, فهم ينشطون بكافة الأسواق وفي منطقة الخليج يتواجدون بكثافة من خلال فروع لهم يتواصلون من خلالها مع المؤسسات المالية والعوائل التحارية والشركات بشكل مكثف ولذلك تظهر أسماء لمستثمرين خليجيين في أصول تلك الأسواق وبمبالغ كبيرة نسبياً.
إلا أن هذه الأزمة تفتح المجال لاقتناص فرصة ذهبية لتعزيز تسويق الاستثمار في الاقتصاد السعودي والذي يعيش أزهى مراحله بعد أن تحاوز حجم الناتج المحلي تريليون دولار أميريكي بالإضافة لتحقيقه أعلى معدل نمو بين دول مجموعة العشرين عند 8،7 بالمائة فرؤية 2030م ترتكز على تحول وإصلاح اقتصادي ضخم من بين ركائزه إصدار وتعديل بأنظمة فاق عددها الـ 195 نظاماً وتشريعاً بمختلف المجالات ساهمت بتعزيز جاذبية الاستثمار والضمانات والتسهيلات المطلوبة له مع توسع بعدد القطاعات الاقتصادية التي تعد من ركائز التحول الاقتصادي في الصناعة والخدمات بمختلف أنواعها, وكذلك اعتماد وتنفيذ مشاريع عملاقة جاذبة للاستثمار بقطاعات واعدة كالتعدين والخدمات اللوجستية الذي يشهد تحولات كبرى لرفع مساهمته بالناتج المحلي, وكذلك السياحة والترفيه وتطوير القطاع المالي, وكذلك برنامج شريك الذي يتوقع أن يبلغ حجم الضخ الاستثماري من خلاله خمسة تريليونات ريال بالإضافة لإجمالي الاستثمارات والإنفاقات العامة المتوقع لها أن تبلغ مع برنامج شريك 27 تريليون ريال سعودي حتى العام 2030.
فالمملكة تطلق مبادرات ومشاريع وبرامج بشكل منتظم وجميعها يبدأ تنفيذها وفق المدة الزمنية المقترحة لها مع تذليل كافة العقبات والتحديات التي تواجهها ووفق أفضل المعايير العالمية ومن خلال بيئة استثمارية وجودة حياة صحية مع فتح المجال لشراكة واسعة للقطاع الخاص من خلال الخصخصة وكذلك الدور المستهدف له بالاستثمارات الضخمة التي ينفذها صندوق الاستثمارات العامة وما تتيحه الجهات التنظيمية الرسمية كمنشآت, وكذلك الفرص بالقطاع البلدي والمدن الصناعية وغيرها, فالمنطقة التي ننتمي لها مقبلة على تنمية واسعة خصوصاً مع ما تقوم به قيادة المملكة من جهود جبارة لتعزيز السلم والأمن بالمنطقة للانتقال لمرحلة تنموية وتعاون اقتصادي واسع بين دول المنطقة تقوده المملكة بقوتها بكافة المجالات ودورها الاقتصادي الإقليمي والعالمي وتحالفاتها الدولية الواسعة وشراكاتها مع كبرى الاقتصادات العالمية, والمكانة الرفيعة والموثوقية التي تحظى بها دولياً مما يجعلها الوجهة الأكثر جاذبية للاستثمار.
فالفرصة الحقيقية لأموال المستثمرين بالمنطقة والعالم عموماً والمواطنين خصوصاً هي في القطاعات الاقتصادية محلياً فالفرص التي تطرح كبيرة وبأعداد ضخمة وبأمان وثقة لن تجدها بالأسواق الدولية التي كانت لعقود هي الوجهة الأكبر للمستثمرين, لكن ما حدث بالأيام الماضية بل ومنذ أزمة 2008 المالية وكيف يتم التضحية بأموال المستثمرين بكل سهولة ويتكبدون الخسائر الكبيرة بلا شك يعزز من التوجه للاستثمار لوجهات عالمية أخرى والمملكة من أبرز تلك الوجهات وهي التي تتمتع باستقرار اقتصادي مميز وبنظام مالي يعد الرابع عالمياً من حيث الرقابة والملاءة والاستقرار وغيرها من المزايا الاقتصادية وحفظ الحقوق لكل الاطراف.
صحيح أن الأزمات العالمية تولد الفرص ولكنها أيضاً تنبه لمخاطر مستقبلية عند البقاء بأسواق من السهل أن تشطب استثماراتك فيها ولن تتمكن من استرجاعها أو تعويضها بسهولة, ولذلك فإن استثمارك في وطنك هو الأكثر أماناً خصوصاً مع انطلاقة اقتصادية نوعية غير مسبوقة بحجمها تستثمر كل الإمكانيات المتاحة بالاقتصاد الوطني السعودي, حيث تحركت كافة القطاعات الاقتصادية وكذلك تم توجيه الاستثمارات لكافة المناطق وفق مزاياها الاقتصادية مما يوسع من حجم المنفعة والعائد للمستثمر خصوصاً عندما يكون مشروعه معتمداً على الأفكار الإبداعية والتقنيات الحديثة.