الاحتفاء بالعلماء واجب ووفاء لمستحق، وهو ينم عن خلق نبيل وصحة مجتمعية، وفيه تسليط الضوء على شخصيات نافعة لنفسها ومجتمعها. كما أنه يخلق تنافسًا وتحفيزًا على الإنجاز لدى الآخرين، فضلًا عن السعادة التي يحققها للمحتفى به وأحبته؛ وهم يرون التقدير والامتنان في حياة المحتفى به. وأستاذنا الجليل أبو أوس إبراهيم الشمسان، أستاذ النحو والصرف بجامعة الملك سعود، عالم لغوي جليل، ترك موروثًا علميًّا رصينًا وأثرى المكتبة العربية بكتاباته وأبحاثه ومؤلفاته. والأهم أنه واحد ممن عرف بالتواضع والخلق الرفيع، وكثير من طلابه يشهد له بالتعامل الإنساني الراقي. وحين يجتمع الخلق والعلم في شخص فلا شك أنها من أجل النعم الخالدة التي يتشفع بها في الدارين.
أكتب اليوم عن احتفاء مختلف، وفكرة إبداعية فهو مبادرة من أبناء الدكتور إبراهيم، وهو يضاف إلى احتفاءات سابقة من جهات كريمة لم يغفل الأبناء تضمينها كتابهم.
ولأني من محبي هذه الأسرة ولم يسعفني الوقت لأشارك قبلًا فلا بأس أن تأتي مقالتي لاحقة بعد إصدار الكتاب. وكلامي هنا يتداخل فيه الخاص بالعام والعلمي بالعاطفي. وقد اعتدت على دعوات الغالية أم أوس أ.د. وسمية المنصور، وكنت في كل مرة أذهب يسابقني الشوق والحب لأجد الحب والسعادة في انتظارنا على اختلاف الحضور فقد تكون لقاءات تجمعنا بطالبات غاليات درسناهن فتتعدد السعادة مع كل نظرة لطالباتنا، وقد تكون دعوة لزميلات فيزداد اللقاء سعادة.
ولندع الحفاوة إلى الاحتفاء ونتحدث عن كتاب الأسرة التكريمي الذي أهداه أبناؤه، وحمل عنوان (أبو أوس إبراهيم الشمسان). وهي فكرة إبداعية لأنها تكريم في وجوده أطال الله عمره في خير وعافية وعطاء، ولها أثرها النفسي والخلقي؛ فالامتنان من تمثلات الخلق الرفيع، إضافة إلى الأثر العلمي لأنها توثق لعَلم وعالم ومنجزاته، كما تحفظ شهادات من عاشروه من أهله وأصدقائه ومعارفه وطلابه، وفيها الكثير من العلمي والإنساني. فالفكرة سنة جميلة من أسرة جميلة وسابقة جدير أن تقتدى وتقلد.
الكتاب كبير تزيد صفحاته عن خمس مئة. يتضمن -كما جاء على الغلاف-كلمات وأبيات وقراءات وشهادات وأبحاثاً مهداة. وهو قسمان القسم الأول تضمن كلمات الأسرة والأحباء وشهادات وأبيات كتبت في أبي أوس، وقراءات في جهوده العلمية ومؤلفاته وهي تعد توثيقًا للإنتاج العلمي الرصين في سيرته الحافلة. وقد ضُمن الملفات التكريمية التي نشرت قبلًا في المجلة الثقافية الملحقة بصحيفة الجزيرة الصادرة في إبريل 2018م. ونشرة جسور التي يصدرها مركز حمد الجاسر الثقافي في عدد رجب 1443هـ. والقسم الثاني عبارة عن خمسة أبحاث مهداة، هي:
1- هجرة المخطوطات العربية أنموذج من القرن السابع الهجري: أبو زكريا صالح الحجي.
2- التحقيب السياسي للعصور الأدبية نظرات ومراجعات: أ.د. عبد الله بن سليم الرشيد.
3- من قيم التعايش في المثل العربي: د. علي بن معيوف المعيوف.
4- قراءة نصية لمعاني حروف الجر عند الشمسان: د. محمد عبدو فلفل.
5-الخوف في سياقات قصة موسى في القرآن الكريم، مثيراته وتأثيراته: أ.د. وسمية عبد المحسن المنصور.
وسأقف بين البداية والنهاية حيث تجد أم أوس الجميلة قلبًا وقالبًا التي لا يكتمل الحديث عن أبي أوس دونها؛ وهي من ملكت قلبه وعقله- كما قال في كتابه (أخي محمد)-. وهي في بداية الكتاب بمقالة، وفي آخره ببحثها، فهي في البدء وبها الختام. وكأنها كما قالت تحوط الكتاب بذراعيها.
إذن بدأ الكتاب بكلمات الأسرة التي جاءت مبهجة ومؤثرة وهما صفتان في الكتاب كله. أولها كان مقال أم أوس تحدثت فيه عن ثلاثية أبي أوس: العالم والباحث والإنسان ختمته بقولها: الحديث عن الشمسان الإنسان لا يقل عمقًا عن العالم والباحث ونكتفي بالقليل ليشير إلى الكثير. وثانيها للأستاذ الدكتور أوس ينقل حكايته مع اسم أوس، ثم ديمة وبدور وقد عبرتا بقلوبهما عن العلاقة الراقية والدافئة التي جمعت البنت بالأب وكيف أن كلًّا منهما بأبيها معجبة وشبيهة. كما تكلم بدر عن العالم الإنسان ويقول هنا في القلب أبي القيمة والقامة.
وآخر الكتاب كما أسلفنا بحث أستاذة اللغويات وسمية المنصور، جاء بعنوان: الخوف في سياقات قصة موسى في القرآن الكريم، مثيراته وتأثيراته. وهو كما قالت لي (كتبته بقلبي واستغرق مني عامين). وفعلًا من يقرأ البحث يرى الدكتورة الوسمية ونَفَسها ويلحظ عمقًا وتأملًا، ومع أن أكثر جوانب القصة لا شك مرت بنا إلا أنك ستجد إشارات مهمة ولفتات ذكية فيها فائدة وجدة، فضلًا عن المتعة فمن يقرأه كأنه يقرأ قصة متسلسلة تحررت من جفاف قد يعتري اللغة العلمية. وقد وقف البحث على أحداث القصة التي جاءت في 27 سورة متباينة المواضع في العدد والطول وتفاصيل الحدث. فحددت المواضع، وعرفت الشخوص؛ وهم: موسى، وأم موسى، وأخت موسى، وامرأة فرعون، وفرعون، والإسرائيلي، والقبطيان، والرجل الذي يكتم إيمانه، والرعاء، والرجل الصالح، والفتاتان وأبوهما، وهامان، وقارون، والسحرة، والسامري، والخضر. وتناولت معجم الخوف في القصة، ونماذج من مثيرات الخوف وتأثيراته في عدد من الآيات، واستفادت من الجداول لتظهر الفكرة وتجمل المواضع. ولم تهمل الوسمية الوقوف على البشارات كقوله تعالى (( لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ))، ولا عنصري الزمان والمكان في القصة فتناولتهما في مشاهد متسلسلة: مشهد مولد موسى وإلقائه في اليم والتقاط قصر فرعون التابوت، والمشهد الثاني تربيته في القصر، والثالث خروجه من مصر إلى مدين هاربًا من فرعون وجنوده، والرابع لقاء موسى بربه في الوادي المقدس، والخامس الدخول الأول على فرعون وعرض الرسالة، والمشهد السادس مواجهة السحرة، والمشهد السابع العقوبة وإغراق فرعون ومن معه، وآخرها مشهد ما بعد العبور.
واهتمت بتحليل المثيرات للخوف في نماذج متباينة من الحوارات التي يسكنها الخوف ظاهرًا بلفظه: (أخاف)، و(خفتكم)، و(خائفا)، و(خيفة)، أو كامنًا في سياق النص القرآني الكريم نحو: (( ثُمَّ تَوَلّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )) الذي تقول فيه: كثير من المفسرين قال في تفسير (فقير) أنه الطعام. والوصف (فقير) يتحمل في هذا الموقف ظلال خوف لَمّا ينته، من قلق وهواجس وانتظار مجهول لا يتبينه فيستعد له، وعناء مكابدة جوع شديد باعثه تلبية حاجة طبيعية لمن يتأخر طعامه، مع جوع نفسي وليد الخوف والقلق. وهذا الجوع النفسي تعاني منه فئة من البشر ممن يكونون فريسة للعجز عن تجاوز الأزمات والافتقار إلى فكر حي رصين واسع الأفق يسيطر على جحافل القلق المستشرية التي تنهش المرء فيتضور جوعًا على جوع.
وعن مشهد مواجهة السحرة: (( فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَوْ يُعَقِّبْ ))، تقول: هذا خوف مختلف في حدة درجته وقوة بلوغ تأثيره والتلاحق السريع لردة الفعل المباغتة (وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ). يستوقفنا توالي فعلين حركيين (ولّى) و(لَمْ يُعَقِّبُ). الفعل الثاني متمم لحركة الفعل الأول -وإن شكل مع (مُدْبِرًا) وصفًا لحال فعل الحركة (ولى)- ومما دفع بالخوف إلى أبعد مداه أن الحال الأولى (مُدْبِرًا) جاءت صفة مكتفية بصيغة الوصف المشتق التي جمعت -مع حركة الإدبار وجهته- ثبات فعل إرادة فاعلها فهو من اتخذ قرار الإدبار بوعي، أو حدث الفعل جسديًا بدون وعي. في حين جاءت الحال الثانية (لَمْ يُعَقِّبْ) جملة فعلية واصفة لحالة الفرار بصيغة للفظ منفي تَحَمَّلَ شدة الخوف وهلع الروع، ممتزجًا بقرار فعل تلبس لفظه النفي المتحقق في لفظ (لم). وهو ما حقق تكامل سرعة تأثير مثير الخوف رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ مع فعل التحرك (رد الفعل) (وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ). وهو موقف يرسم معالم الخوف فيه تجمع أفعال ذات دلالة حركية تشكل رد فعل، عاجز هاله موقف تجاوز حدود الإدراك البشري. فما بين المقدرة الإلهية للرب الخالق المدبر سبحانه جل شأنه وبين المتلقي العبد المحدودة قدراته؛ نجد اختلاف تأثير الخوف وتمادي فعله.
هذه إشارات تخيرتها لكم من حالات الخوف التي قالت عنه الوسمية: لم يكن خوف موسى نمطًا موحدًا في جميع سياقات القصة ففي قوله تعالى: (( فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكم )): هذا الفرار الذي أعقب الخوف ليس صورة من الانهزام النفسي، بل ضرب من استشراف ما قد يأتي، بناءً على حسابات تجربة واعية مدركة لعواقب موقف خاص في ظرف خاص، مع أقوام تسوق أفعالهم وسلوكهم تمثيل سلطة غاشمة، فهذا خوف مشوب بالحذر المقود بالخبرة ووعي التجربة.
أعود وأختم مقالتي -التي طالت دون قصد- عن أبي أوس، لكن بفقرة ليست إقفالًا لما بدأت بل فاتحة لكتاب آخر واحتفاء من نوع آخر. إنه كتاب (أخي محمد، الذي احتمل عني أوزار الحياة) والحديث عنه وثيق الصلة بما نحن فيه فالكتاب لأبي أوس أولًا، ويشكل احتفاءً من طراز فخيم بأخيه. ومن بعد فالكتاب مفيد وممتع، قالت أم أوس – عندما أهدتنا إياه في ليلة شتوية دافئة بالحب في بيت الغالية الراقية أ.د. سعاد المانع- إنها بمجرد أن وصل الكتاب وأثناء حمل النسخ إلى البيت كانت قد أخذت نسخة ولم تتركه إلا وقد انتهت منه. فقلت في نفسي: لها أن تفعل ذلك مع كتاب رفيق رحلتها أبي أوس. لكن الأمر تكرر معي ومع زوجي أبي عمار الذي وضع عليه اليد قبلي.
ولا أملك إلا أن أصفه بأنه طريقة مختلفة في الاحتفاء، وفي كتابة السيرة الذاتية، وفي كتابة التاريخ. فأبو أوس يكتب عن حياته وهو يسطر عن مواقف (أخيه) وعطائه وحبه غير المشروط. ويكشف بالفعل عن جوانب تاريخية مهمة في المملكة، وتفاصيل في الحياة التي يصفها بـ: سلسلة من المتاعب والمشاق والأهوال. يقول عن الكتاب إنه ليس بسيرة لكنه إطافة بلحظات مميزة في ذهني وبيان لمدى عناية أخي بي ورعايته الفائقة التي هي أكبر من رعايته أبنائه.
تجد أبا أوس يعبر عما كان يتعجب منه في ذلك الوقت بأسلوب رشيق مشوق، كحديثه عن التلفزيون: أعجوبة العجائب فتن كثير من الناس به وأدخلوه في بيوتهم على الرغم من مذمة المتشددين لذلك، وكان الناس لعجبهم في تلك الأيام في خلاف فمنهم من يرى التلفزيون من عمل الشيطان.
ويتعجب في الرياض: ومن أعجب الأمور ما رأيته في جوار بوابة أحد المطاعم، قفص من الحديد فيه نار ملتهبة وأمامها سفود أسفله مركوز في صينية واسعة وأعلاه مثبت بما يمنعه من الميلان، وكان اللحم على هيأة مخروط مقلوب، والطباخ أمامه يدير المخروط كل حين لتصلى النار جوانب المخروط وتنبعث منه مع الحرارة رائحة تسيل اللعاب. مضينا عن ذلك فلسنا نملك ثمنه، وعلمت بعد بأنه يسمى (شاورما).
وهكذا فالكتاب يوثق للحياة في المملكة العربية السعودية، ويحفظ تفاصيل كثيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والمهنية، ويظهر التحول العجيب في الوقت القصير في حياة الأفراد والمملكة.
أعتذر إن أطلت لكن الحديث يجرّ بعضه بعضًا، وموضوعنا عن الاحتفاء الذي دائمًا عواقبه حميدة، وكان كتابان بين أيدينا، وعالمان لغويان، وأسرة مباركة.
** **
أ.د. ذكرى يحيى القبيلي - أستاذ اللسانيات بجامعة الملك سعود