• عبدالرحمن ومزنة
الليلة الزمان زمانهم والمكان مكانهم!!
مسافران من مدينة الحياة إلى مدينة أخرى اسمها الحياة مكتظة بالمشاعر والأفكار والمواقف والظروف
وعش صغير وصغار!!
الليلة عبدالرحمن ومزنة هما المسافر والرفيق
وهذه القاعة الباذخة الجمال تغطيها شجرة العنب الكهربائية والمصابيح المتأرجحة في بوابتها الواسعة كأن المكان جوهرة مشعة في ليل المدينة!
إنها ليلة من أحلى ليالي العمر.
بطاقات الدعوة للزفاف تعني للمدعوين مكان وتاريخ الزواج ولكنها تعني لعبدالرحمن ومزنة بطاقة الصعود في سفر الأيام إلى الأحلام!
وفي القاعة المخصصة للرجال عبد الرحمن تأنق بثوبه الأبيض وغترته البيضاء والبشت الأسود والعقال وجلس في منصة العريس ويتلقى التهاني من الحضور، وجاء صالح الأخ الأكبر لمزنة ليمسك بيد عبدالرحمن ويصحبه إلى القاعة التي فيها العروس، وأطل العروسان من الشرفة على الحضور واليد ممسكة باليد ومزنة بثوبها الثلجي تُشرق في المكان، وبكعب حذائها العالي تمشي كأنها ظبية تراقص الدلال وزغاريد الفرح تملأ القاعة..
«مبارك عرس الاثنين ليلة ربيع وقمرا» وأم عبدالرحمن وأم مزنة في ضحك باكٍ كان له ندى في العيون!
المشاعر هنا مثل العطور تمتزج بكل شذاها ودفئها تفوح من أزياء السيدات وقلوبهن!!
وبين «فلاشات «التصوير وابتسامات البهجة والفرح العروسان يسيران إلى خارج القاعة حيث سيارة عبدالرحمن الفخمة وأم مزنة تقترب من عبدالرحمن وهي تقول « أوصيك بمزنة خيراً. وأريد منك وعدًا ألا تبكيها يومًا».
قال لها «أعدك أن مزنة ستكون في عيني وسوف أعمل على إسعادها ما حييت».
عبدالرحمن أراد أن يبعث في نفس مزنة الطمأنينة وهما في الطريق إلى الفندق والتي أصمتها الحياء قال لها:
أنا جائع ما أدري وش وضع العشاء ...وش أنت طابخة لي يا «أم مقبل» قالها وهو يضحك!!
تبسمت مزنة وقالت سم وأبشر رتبت مع الفندق العشاء وسيكون مجهزًا في الجناح!!
• وصلا إلى الفندق وصعدا إلى الجناح الخاص بهما
كان المكان باذخ الجمال فيه فخامة تكاد تنطق جوانب الغرفة من روعة زخرفتها ودقة التصميم وتناسق ألونها!!!
أخذت مزنة مشلح عبدالرحمن والغترة والعقال ووضعتها برفق في الدولاب وأقترب عبدالرحمن من عروسته وأزاح الغيمة البيضاء عن استدارة قمر أبيض وعينين أثقلتهما أهداب الحياء.
ثم ابتسمت مزنة من ثغر كثغر رضيع بين يقظة ونعاس!!
وخلع عبدالرحمن التاج من على رأسها فتدلت خصلة الحرير على جبينها وعينيها وموج شعرها الأسود فاض على كتفيها وحول عنقها..
فقال لها أنتِ تاج قلبي ما حييت!!
وضعت رأسها على كتفه وأنت ستكون دائماً تاج عقلي وقلبي معاً!!
قال عبدالرحمن وهو يجلسها على الكرسي الواسع ويجلس بجوارها سيبقي حبيبتي هذا وعد وعهد
بيننا نُشهد الله عليه!!
نظر إليها وسألها: مزنة ما أجمل ما في هذا المكان؟
قالت: المكان جميل جدًا ...ديكور السقف أشكال المصابيح ربيع الصوف الذي يفرش أرض الجناح
التفاصيل تباهي التفاصيل!!!
قال: آسف حبيبتي إجابتك خاطئة.. الإجابة مكتوبة بالمرآة تعالي معي لتريها وأخذ بيدها ووقفا أمام المرآة
قال: رأيتِ الأجمل!؟
إنها هذه الأنثى ......هذه الحسناء.. إنها مزنة ...إنها أنتِ!
قد أستطيع أن أقول يشاركك الجمال هنا شيء لا يرى!!!
حبيبي شيئ لا يُرى أهو لغز؟ قال: إنه حظي الجميل يا مزنة أن تكوني من نصيبي!!!
أنا لم أعرفك قبل الزواج ونحن الآن نتزوج زواجًا تقليديًا مثل نماذج رائعة لزيجات ناجحة رأيناها في أهلنا وكيف الحب يدفع رفقاء العمر إلى تضحيات من أجل إسعاد بعضهم!!!
صدقت عبد الرحمن حتى أنت حين خطبتني وسألني أبي الغالي عن رأيي!!
قلت له إذا كان الخاطب لي بارا بوالديه وأهله سأقبل به لأن أمي تردد دائمًا «اللي ما فيه خير لأهله ما فيه خير للناس»، وقد أثنوا عليك في هذا الجانب فقبلت واليوم أنا منك وفيك وفي نعيم قلبك!!
بدلت ملابسها مزنة وقالت تفضل العشاء جاهز!!!
ومضت ساعات الليل في مودة وحب وصفاء!!!
قامت مزنة وعبد الرحمن يلاحقهما بنظرات الإعجاب والسعادة بفتح حقيبة ملابسها ومجوهراتها فلفت انتباهه قصاصات عدة من الجرائد في ملف بين ملابسها ومجوهراتها فاستغرب!!!
ما هذه الجرائد!!؟
قالت: وهي مرتبكة وخائفة...!!!
هذه قصاصات لكاتب يعجبني وأحتفظ بها وهي من أثمن مقتنياتي!!!
اقترب عبدالرحمن وأخذ الملف وصار يقرأ العناوين ثم أعاد الملف لمزنة قال: العناوين كئيبة وحزينة!
انتبهي ففيروس الحزن يُعدي!!!
دعاها للنوم ولكن مزنة لم تنم في أحلى ليالي العمر لم تهنأ بالنوم!!
نهضت الساعة الثالثة من صباح الظل وهي تشعر بالقلق لملاحظة عبد الرحمن قصاصات الجرائد في حقيبتها، أخذت الملف وتسللت إلى شرفة الفندق المطلة على الحديقة..
وأخذت تقرأ وهي تبكي وتحاول أن تبتلع صوت بكاء قلبها حتى لا توقظ قلباً
في أول ليلة تسكن فيه!!
أخذت قلم الرصاص وكأنها أمسكت ببندقية، وكتبت عند صورة الكاتب وعلى هامش مقالاته في الجريدة...رسالة لن يقرأها «عذرًا أستاذي وصديقي وأليف خاطري ...» لن يكون بمقدوري أن أقرأ لك بعد اليوم أو أن أحتفظ بقصاصات وجدانياتك في الجريدة بعد اليوم ولن تجد في صندوق بريد الجريدة مغلفًا فيه صدى قلبي لأنينك المعزوف ولا حروفاً سالت مدادها من مطر عينيي الباكية وقلبي الشجي بعد اليوم، لن يكون بمقدوري أن أتمنى أن أقايضك ذاكرة بذاكرة وأنا في هذه الشرفة العالية أشعر أنني معك في لقاء على جسر الوداع!!
لن أنظر بعد اليوم ليد أبي في كل مساء حين يعود من العمل وقد أحضر لي قصاصة مقالك في الجريدة حيث إنه يعلم أنني مولعة بكل ما تكتب!
بعد اليوم لن أمشي على قدمي في كل يوم جمعة للبقالة حتى أشتري الجريدة التي فيها خاطرة لك، لم يعد بمقدوري أن أحاورك على هامش الجريدة وأهدهد جراحك بيدي الزرقاء رغم أن حروفك كانت معي في قلبي وفي ذاكرتي وفي مكتبة الليل بين يدي حين يصمت العالم وتتحدث أنت بين السطور!!
تخيلتك أنك لبيت دعوتي لحضور زفافي رغم صعوبتها وأرجو أنك ما نسيت أنك الوحيد بين المدعوين الذي تفكر فيه العروس.
أنت الوحيد الذي كتبت اسمه على بطاقة الدعوة بخط يدي .... وتمنيت أن لا تلبيها مجبرة أن أكون متناقضة أتمنى الأمنية وأرجو ألا تتحقق!!
أعلم أن في هذه الليلة تيتمت حروفك ...وأني بقدر ما كنت أبحث عنها سوف أتوارى بعينيي عنها!!
يا لقسوة أصباغ جفن قلمي طمست حروفك وصورتك!!
ليتني أستطيع أن أختار لك امرأة قلبها يكون أحن قلب عليك وتتكلم لغة الصمت بطلاقة وتكون لديها القدرة أن تبدل ليلك من السهر إلى السمر ....وينسيك حضنها أيام تشرد قلبك وانكسار خاطرك وينطفي جمر الحنين بأنفاس حنانها ويصبح ليلك معها هو الفاصل بين النهار والنهار!
نهضت مزنة من كرسيها في شرفة الفندق ومشت إلى ثوب عريسها عبدالرحمن وأخذت ولاعة السجائر ثم عادت وبدأت تشعل النار بقصاصات الجرائد وهي تبكي وتكتوي!!
وتتمتم مزنة كأني أراك والمركب يغرق في بحر الدموع استيقظ عبد الرحمن على رائحة ورق الجرائد المحترق بالشرفة ومزنة لم تكن بالسرير فنهض مفجوعًا وجاء إليها مسرعًا ما هذا الدخان ورآها تبكي حضنها وقال: حبيبتي لم البكاء!!؟
تماسكت ثم قالت أتخيل حبيبي عبدالرحمن أنني قد احترقت فقدت جزءًا من قلبي بالحريق.. وفقدت جزءًا من ذاكرتي فهل ستقبلني أن أكون فتاة أحلامك وأنا بنصف قلب ونصف ذاكرة!
أشعر أنني في هذه الليلة على سفح جبل والرياح الباردة تلسع كل ما فيني ...
عبدالرحمن حبيبي إنني متعبة.... تكاد رائحة الدخان تخنقني. وأشعر بالبرد يغرس أنيابه في حنايا الضلوع!!
ظلت تبكي على كتفه.. وصار يقرأ ما كتبت يسابق النار بنظراته وأدرك ما يبكي عروسه الرائعة!!!
أمسك بها وهي لا تزال تبكي على كتفه وقال لها هامساً: الشرفة باردة والبرد يؤذيك حبيبتي ..لقد قرأت بعض سطورك قبل أن تبتلعها النار وفهمت أن هذا الكاتب يعني لك الكثير وأنك ألفتيه ..وأن المجتمع يفخر بهذا النقاء والطهر ولكن لا يقبل الصداقة بين الرجل والمرأة!!
قالت مزنة لو قلت لك أنه صديقي لكذب لساني وصدق قلبي!!
ولو قلت لك أنه حبيبي لكذب لساني وصدق قلبي!!
ولو قلت لك أنه أخي لصدق لساني وصدق قلبي!!
نعم أنه أخي وأخي وأخي رضاعة البوح كانت بيننا!!
عبدالرحمن قسمًا بربي أنه أخي ....!!
رغم أني لم أسمع صوته وأهاتفه يومًا ...ولا أعرف رقم هاتفه ولكن كان قلبه يكتب وقلبي يقرأ له وأحيانًا أجد بحروفه ما يريحني في دنياي رغم أنه يكتب عن مواجع حياته!!
عبدالرحمن ليتك تعلم أنني أتخيل أنه في هذه الليلة أسعد مني بسعادتي!!!
قبلها عبدالرحمن وحاول مسح دمعتها ثم قال لها:
تعال معي إلى الدفء وسوف أكون شمسك ما حييت ما يؤلمك هو الوفاء الجرح حين يكون طبيبة ودواءه هو الوفاء!!!
أتفهم جيدًا بعد أن قرأت حروفك على الجريدة قبل أن تحترق «ورب أخ لمزنة لم تلده أمها». أنا فخور بك بالنار التي تريد أن تشتعل بالأوراق وتحرقها وبدموعك التي لا تريد!!
قالت مزنة: لو علم الناس ببكائي لحملوني خطيئة البكاء، جلسا على حافة السرير وهما ينظران إلى الشرفة بصمت وقد هبت الرياح وقصاصات الجرائد المحترقة تتبعثر وتتطاير في الأجواء كطيور مهاجرة!!
قام عبدالرحمن وأرخى الستارة على الشرفة وأشعل الشمعة على منضدة بجوار السرير!!!
** **
- عبد العزيز حمد الجطيلي
ayamcan@hotmail.com ** ** @aljetaily