د.نادية هناوي
تعني اللغة الأدائية القدرة على توصيل المعنى بتأثيرات قولية تجعل الملفوظ الكلامي مؤدياً غايته التي عادة ما تكون أدبية وبما يتناسب وطبيعة الذات الساردة أولاً، وما يجري داخل الشخصيات من اعتمالات شعورية آخراً. وإذا كانت اللغة الأدائية تتجلى في التوصيل والتأثير الجماليين، فإن وسيلتها في تحقيق هذا التجلي تكمن في (المنطوق الأدائي) بوصفه ملفوظاً لا يصور الفعل في قصدية إنجازه ولكنه يؤديه عمليا بناءً على: 1 ) طبيعة كل مفردة من المفردات وطريقة نظمها كجمل وتراكيب وعبارات. 2 ) طريقة المطابقة بين العلامات اللغوية والعالم الواقعي والحالة النفسية المعبر عنها وكثافة الاستثمار للأقوال. 3 ) صلة الخطاب بالمصالح الشخصية ووضعية المتخاطبين. وهو ما يدخل في حقل التداولية اللسانية التي لم تعد جزءاً من علم اللسانيات ولا منعزلة عن علوم اللغة بخاصة وعلوم المعرفة الإنسانية بعامة، وعادة ما ينصب اهتمامها على دراسة( اللغة في الخطاب وتنظر في الوسائل الخاصة به، قصد تأكيد طابعه التخاطبي).
وكان لدراسات بيرس في الفلسفة اللغوية البراغماتية الأثر المهم في تطوير التداولية اللسانية كما كان لأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس أهمية كبيرة في توجيه الاهتمام التداولي نحو الحياة الاجتماعية بوصفها نتاج عمليات تواصلية لسانية تقوم على تبادل المعلومات وتنظيم المنافع والأشخاص والطقوس. ويعد ( لانغشو اوستن) واحداً من المهتمين بدراسة التداولية اللسانية مميزاً بين نوعين من المنطوقات الأدائية:
1 ) المنطوقات الإخبارية وهي مقولات تقريرية constaite utterance فيها يكون الإدلاء بالجملة غير واصف واقع الحال، ولا يعني أن القائل سيفعله كأنه أمام محكمة وعليه ألا يزاول إبلاغاته المعتادة.
2 ) المنطوقات الأدائية وهي مقولات فعلية performative unteranceلا تطرح المعاني بتقريرية ومن ثم لا يُبحث عن صحتها أو خطئها أو خيرها وشرها أو قبحها وجمالها أو جدتها وهزلها أو حسنها وسوئها؛ وإنما هي مراوغات مرئية وغير مرئية اعتماداً على طبيعة الظروف.
ويؤكد اوستن أن هذا التمييز ينبه إلى حجم اللغة وما فيها من أفعال ينبغي على المتكلم أن يؤديها، ذلك أن اللغة الأدائية تركز اهتمامها على استخدام اللغة بوصفها نشاطاً وصناعة للعالم تشبه اللغة الأدبية.
ولأن المنطوق الأدائي هو الذي يحدد إنجازية النص السردي اللغوية، لذا يغدو معياراً من معايير تحديد أسلوبية السرد سواء أكانت الإنجازية تقريرية أم كانت إنشائية. وحين نقول إن لغة الأدب أدائية فمعنى هذا أنها ابتكارية، تُوظَّف فيها مختلف الأساليب القولية التي تتلاءم مع التعابير الرمزية والسياقات المرجعية والمقامية والحدثية والبشرية.
فاللغة تشكل العالم بطرق معينة، ونموذج الأدائية هو الذي يقدم طرحاً معقداً إلى حد كبير للقضايا ذات الحدود غير الواضحة بين الحقيقة والخيال والمشكلة في الحدث الأدبي. وفي الرواية العربية تغدو اللغة الأدائية عبارة عن إنجازية لغوية تعتمل بميكانيزمية، لا تنقل الدلالات حسب، بل تؤديها أفعالاً سردية وبشفافية تسمح بتكثيف التعبير اللساني وبمقصدية قولية تحتمل كثيراً من التأويلات. ولنأخذ مثالاً على ذلك رواية (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد التي فيها يمتزج السرد بواقعية تداولية وبصورة أدائية فيها الخطاب اللساني يتحدد بحسب ظروف المتكلم الاجتماعية وكفاءته اللغوية في إنتاج دلالات ذات إحالات اليغورية، غالباً ما تأتي في شكل تضميني وبمقتضيات إضمار قولية متنوعة.
وتبدأ الرواية بجملة إنجازية هي ( انفتح باب الطائرة فرأيت الصمت.) وبأدائية قولية تكمن في هذا التكثيف الدلالي وتلك الصياغة الاختزالية المتخيلة بواقعية تتأكد رمزيتها في نهاية الرواية( بسرعة انفتح باب الطائرة وبسرعة وجدت جواري وأمامي ثلاثة من الجنود) التي بها تتأكد أيضاً دائرية البنية السردية للرواية كونها تنتهي بما كانت قد ابتدأت به. ولا تعني إنجازية الجمل السردية أنها إخبارية تنطق بتقريرية، لأن المحاميل الدلالية لكل منطوق أدائي لا تخضع لمقياس الصحة والخطأ.
وما يزيد في دلالية المنطوقات الأدائية أنها تُظهر السارد الذاتي إسماعيل دائم الذهول وكثير التيهان ساهم الحال متكدر الهيئة غير عارف ما يجري حوله، ولا هو دارٍ كيف يمكن للاقدار أن تسيره، وهو منقاد لما ترسمه له من مصير على طول الرواية وعرضها. ولا مناص من القول إن عدم الدراية من جهة واستحكام البنية القولية للأفعال من جهة أخرى أكدا أن القدر هو الفاعل السردي الذي منطوقاته الأدائية تتجلى من خلال إسماعيل وهو يتكلم ويتحرك أمامنا، ونحن نسمع كلامه ونشاهده وهو يمارس أفعالاً ذات ملفوظات هي عبارة عن أداءات استرجاعية درامية حيناً وأوصاف مكانية بانورامية حيناً آخر.
وليس أدل على لا أدرية إسماعيل سوى هذه الجمل الاستفهامية التي تترى على لسانه وهو يسرد وقائع شاهدها فزادته حيرة وجعلت حياته كلها مرهونة بحل لغز كان يشعر أن عليه أن يحله. فتركزت أغلب تلك التساؤلات حول الفتاة ( واضحة) التلميذة التي فُصلت من المدرسة ووصفت بالفاجرة وأحبها إسماعيل لأنه تصور أنها هي الخيط الذي سيوصله إلى الحقيقة ( لماذا حقاً لا أستطيع الابتعاد ولا أطيق الاقتراب من واضحة بنت سليمان بن سبيل) أو ( لماذا أنا هنا؟ سؤال صعب يا واضحة أصعب منه أن أراك وجهاً لوجه وكأني كنت أعرف).
وكثرة التساؤلات لا تعني الشك في ما هو موجود ويقيني حسب، بل هي تعني أيضاً أن كينونة الإنسان ـ سارداً كان أم مسروداً ـ مسلوبة في إرادتها ومغلوبة في أدائها ومقيدة في ملفوظاتها بقوة خفية هي أعقد معرفة وتركيباً من السارد كما أنها أعلم منه بمسروداته. ولقد عرف الروائي إبراهيم عبد المجيد كيف يوجه أدائية السارد الذاتي توجيهاً سيميائياً يعزز فحوى ضيق الحال واللاأدرية الذهنية ضامناً لواقعية روايته أن تكون استفزازية بمحمولات تتضاد لتتفق، وتتفق لتتضاد بغية الظفر بالحقيقة من خلال:
1 ) الملفوظات الاسمية التي اختيرت على فرضية قولية توحي بعكس ما تظهره، فاسم الفتاة/ اللغز هو (واضحة) واسم البطل المغلوب الذي ما نجا من قدره هو( إسماعيل) وأسماء الأصدقاء الأقرباء (سعيد ووجيه وعابد ونبيل) بينما هم كانوا الأعداء الغرباء.
2 ) الملفوظات الوصفية التي انبنى اختيارها على فرضية تخييلية فيها يجتمع واقعان؛ الأول واقع يومي يتمثل في البلدة تبوك السعودية ( لم أعد أرَ في الشارع نساءً أي نساء) ص40 والواقع الثاني افتراضي يتمثل في عيانية ما يراه إسماعيل يجري ويتشكل أمامه بينما لا يراه غيره ( هذا حقاً زمن الكذب الجميل وأنا واحد من رجال هذا الزمن) ص30 و( حية هي إذن لم تمت) ص39 .
وبهذين الأمرين تجلت اللغة الأدائية في الرواية كأسماء وأوصاف حتى كأن ما نطلق عليه اللغة - كما يقول دريدا - لم يكن في أصله وغايته إلا لحظة أو نمطاً.