سراب الصبيح
في الأيام الأخيرة من شعبان، وقبيل طلعة رمضان، من هذا العام 1444هـ، كنت في صحبة الكتاب السيريّ للشيخ صالح الزيد، وقد كان بعنوان: «القاضي الشيخ الدكتور صالح بن عبد الكريم الزيد -رحمه الله- (سيرة ومواقف)»، والذي وضعه أخوه الدكتور: زيد بن عبد الكريم الزيد. وانتهيت من قراءته في ظهر اليوم الأخير من شعبان؛ ولِما رأيت به من فوائد جمة في تلك السيرة العطرة فقد شرعت لكتابة هذا المقال.
بداية سأعرج على وصولي لهذا الكتاب، فإني أؤمن أن الله ييسر لنا الأشياء، وييسرنا لها، وأن كل شيء في حياة الإنسان جاء من سبب إلى سبب، حتى تلك التفاصيل الهامشية التي ذهبت طي النسيان في حياتنا، قد كانت عند الله مرتبة، مؤدية غرضها، مكملة لمهمتها في مشروع الإنسان الحياتي، فلا شيء في هذه الحياة عبث، كوصولي لهذا الكتاب.
فقد عملت في التدريس مع الدكتورة إيثار الزيد: أستاذ الحديث المساعد، ابنة الدكتور زيد الزيد، وعرفتها خلوقة، إنسانية، كريمة النفس، حسنة الصحبة، سمحة، وحين قرأت سيرة عمها المرحوم، والذي بطبيعة الحال فإن سيرة والدها المربي ليست عنها ببعيدة، فقد عرفت من أين جاءت بهذه الأخلاق؛ فقد وصلت إلى هذا الكتاب من خلال معرفتي بها، فتعرفت على الشيخ صالح بعد وفاته -رحمه الله- في هذا الكتاب، واستفدت من دروس حياته وكأني تلقيتها منه مباشرة.
وإن من يعرفني عن كثب، يعرف جيدا أني لا أجامل، لا على الصعيد الشخصي، ولا العلمي، فمن لا أقتنع بعلمه لا أكتب عنه، ومن لا أقتنع بشخصيته فألتزم معه حدود الاحترام والسلام ولا أمدحه مجاملة لمصلحة؛ وإني قد عملت في التدريس مع الدكتورة سابقا، فلا تربطنا الآن مصلحة عمل.
لكني قرأت الكتاب، ومن ثم شرعت لتقديم هذا المقال؛ لسبب خاص بي، وآخر خاص بالكتاب، أما المرتبط بي: فإن من أحب الكتب وأنفعها لي؛ هي كتب السير، لاسيما سير من سبقوني إلى الحياة أكثر من المتأخرين، ولا أرجع السبب في ذلك لحب القديم وتقديسه؛ بل لأن كتب السير لا تخلو من التاريخ، فهو يتوظف بها بشكل كان أو بآخر من خلال عرض السيرة وارتباطاتها بالجوانب الكاشفة عن تاريخية تلك الحقبة، فإني حين أقرأ سير من سبقني أقرأ إنسانية السيرة وتاريخها الذي لم أعشه في آن، أما من كان في جيلي فإني أستفيد من إنسانية سيرته فقط، وأما التاريخ الذي بها فقد عشته وعايشته؛ والسبب المرتبط بسيرة الشيخ صالح: هو أني وجدتها سيرة تشع ضياء، منيرة، حكيمة، تستحق أن تُخدم ويُحتذى بها.
انطلاقا من قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} سأبدأ في التعريج على سيرة الشيخ؛ لأن حياته كلها تتلخص في هذه الآية، وأكثر ما أثار عجبي؛ أنها تتلخص بها بالترتيب الوارد نفسه في الآية، فالشيخ صالح -رحمه الله- منذ صغره كان مواظبا على صلاته أولا، ثم إنه منذ كان طفلا فقد كان مكافحا، يعتمد على نفسه في تأمين قرش يومه، فقد سعى في الأرض بتجارات صغيرة تناسب عمره آنذاك مع أخيه الدكتور زيد: من بيع العصير للحجيج، والمصاحف، وحين كبرا قليلا وسعا أعمالهما فيما توفر لديهما وما كان موائما لخبرة الشباب في ذلك العمر والوقت، إلا أن الله اختار للشيخ صالح طريقه في القضاء بعد إكمال دراسته الجامعية، وآخر ما ورد في الآية من ذكر الله، فهكذا كان الشيخ صالح ذاكرا حافظا للقرآن الكريم.
وبشأن حفظه للقرآن، فإني سأربط بينه وبين شيء آخر ورد في سيرته، فقد ذكر أخوه الدكتور زيد إنه كان يتمتع بذاكرة قوية، ملفتة للانتباه بشدة قوتها، كما ذكر في موضع آخر إنه حفظ القرآن في طليعة الثلاثين من عمره؛ وما ملت إليه إن حفظ القرآن الكريم يثبت الذاكرة ويقويها، ولعل هذا مما ساهم في قوة ذاكرة المرحوم.
أيضا فإن تواضع الشيخ، وسعيه لطلب العلم، قد خوله لصحبة كثير من العلماء، ممن لهم إسهامات كريمة في البلد، كما لهم إسهامات في خدمة العلم، حسب تخصصاتهم. وأذكر أني نشرت مقالا بعنوان «إنسان العلماء» قلت فيه: «خذ من العلماء إنسانهم أولا، علمهم ثانيا»، وأشرت إلى أن القيمة الإنسانية التي يكتسبها المرء من صحبة العلماء تعود عليه بمنافع كثيرة في صقل شخصيته؛ وهذا كان دأب الشيخ صالح في صحبته للعلماء، ومنهم شيخ الحرم الشريم، وأخ الشيخ سديس، وغيرهم الكثير، فإن الشخصية المرنة والمعطاءة والنبيهة والحكيمة التي يتمتع بها الشيخ صالح إن هي إلا هبة من الله، وهبها إياه في تجليات عدة، منها صحبة العلماء.
إن المطلع على سيرة الشيخ صالح يكاد يصله النور الذي أجزم أنه كان يشع من وجهه في حياته، فهو حافظ للسر، وحافظ للسانه من أعراض الناس، يسعى بالخير لهم، وسعيه ليس ماديا فحسب، بل معنويا في بعض المواقف، وتسخيرا لعلاقاته في خدمة منافعهم في مواقف أخرى، وأيضا في نصحه لبعضهم، ولعل هذا فيه دلالة بلاغية جاءت في قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ}، فسياق الآية جاء خاصا لشؤون المطلقين، لكن بالنظر للآية التي سبقتها، والتي كانت تحث على توفير السكن لهن وتحث أيضا على الامتناع عن التضيق عليهن، ففي هذه الأخيرة يتبين أن الإنفاق من «السعة» ليس ماديا فحسب، بل معنويا أيضا؛ والآية وإن جاءت في سياق الطلاق، إلا أنه من الحميد الامتثال بها في سياقات حياتية أخرى؛ كما كان ينفق الشيخ صالح من سعته ماديا ومعنويا، في الكلمة الطيبة، وصلة القربى، والعطف على الصغير، والتواضع للكبير.
وإن أكثر ما استوقفني في هذه السيرة النيّرة؛ هو ختامها، فحسب ما دون الدكتور زيد، أن الشيخ الدكتور صالح آخر ما قرأه في ليلة وفاته -رحمه الله- هي الآيات الأخيرة من سورة الدخان، ثم خلد إلى النوم ولقي ربه -مغفورا له إن شاء الله-، وهذه الآيات كأنها خطاب له في حالته التي سيكون عليها بعد سويعات من قراءتها، جاءت مفصلة بدقة متناهية وبتوقيت عجيب، سأتركك تقرأها وتتأمل معناها وتوقيتها الذي قرأها به الشيخ صالح. قرأ قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ، فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِينَ، كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ، يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ، لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، فَضْلًا مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، فَارْتَقِبْ إِنَّهُم مُّرْتَقِبُونَ} (51-59) سورة الدخان، فسبحان الله!
سأقف الآن وقفة خاصة للوالد الكريم، الورع، الزاهد، الهادئ، والد الدكتورين صالح وزيد، الشيخ «عبد الكريم» -غفر الله له وطيب نزله-، جاءت سيرته في الصفحات الأولى من الكتاب، ولم تطل؛ لأنه توفى حين كان الدكتوران صغيرين، عن عمر يناهز الأربعين، وآنذاك كان عمر الشيخ صالح في حدود العشرة أعوام، حولها وحواليها، وعلى الرغم من صغر هذا العمر، إلا أنه كان كافيا في الوقت ذاته أن يكتسب من والده سماحة الأخلاق، ويتعلم منه ما من شأنه أن بقي في ذاكرته وتأصل في شخصيته، وهذا الشبل من ذاك الأسد، وقد سمى الشيخ صالح ابنه الأكبر «عبد الكريم». وعلى الرغم من قصر الصفحات التي جاء بها ذكر الشيخ عبد الكريم، وهذا طبيعي؛ لأنه كما أشرت توفى وصاحب الكتاب الدكتور زيد كان صغيرا، لكن وفاء وشهامة منه أن ذكر سيرته وقدمها في مقدمة الكتاب، إذن على قصر الصفحات إلا أني لمست في شخصية هذا الوالد المرحوم مكارم الأخلاق، فهو هادئ، متسامح، بسيط، ورع، وحاد الذكاء كما دون الدكتور زيد، وكما دون ذلك عن الشيخ صالح؛ ولعله ورث الذكاء من أبيه -غفر الله لهما-.
ختاما، فإني سأقف على مقدمة الكتاب التي وضعها مؤلفه الدكتور زيد، كانت مقدمة ماتعة، مليئة بالفوائد الجمة، دينية وتاريخية في آن، بين بها أهمية استمرار الذكر الحسن بعد الوفاة، وقد عرض في هذا الموضوع بعض الأقوال للصحابة -رضي الله عنهم- وغيرهم، وأنا أعدها من المقدمات المهمة في هذا الموضوع «الذكر الحسن» لمن أراد الكتابة عنه. وهذا غير مستغرب من الدكتور زيد، فهو أكاديمي ومؤلف كتب عديدة.
وفي نهاية هذا المقال، فإني أدعو الجامعات إلى تدشين مقرر اسمه «السير»، وتكون مادة مشتركة لجميع التخصصات، يرد بها سير النبلاء في بلدنا، وفي الوطن العربي، وفي التاريخ العربي كسيرة طارق بن زياد. أما سيرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإني درستها في مقرر منفرد في البكالوريوس، وأظنها مقررة في كثير من الجامعات.