صديقي العزيز الأديب المتجدد خالد اليوسف.
شكراً لإهدائك آخر أعمالك الروائية «ارتحالات يعقوب النجدي»، 250 صفحة والموزعة على43 قسماً.
اسمح لي أن نقرأها معاً قراءة تفاعلية، أنتم تمثلون الضلع الأول، والرواية الثاني،. وأنا كقارئ الضلع الأخير. أن نتحاور، فلا بموت الكاتب، ولا بسيف الناقد، كون الزمن ياصديقي زمن القارئ بعد تضاؤل مساحات الناقد الأكاديمي خاصة من ينتعلون مصطلحات عفى عليها الزمن ويتقعرون بلغة معجمية، لتغيب أي بصمة لهم مكتفين بترديد ما لغيرهم من مقولات وتنظير.
بداية بالشخصية المحورية «يعقوب الرضيع»، تلك الشخصية المتسمة بالواقعية، بؤس الطفولة، وما أعقبها من ارتحالات أفضت إلى تحولات هامة. ورغمها ظلت تلك الشخصية على سجاياها وتركيبتها، ما يشعرني كقارئ بأنني أعرف يعقوب، وأن حكايته تشابه لحكايات واقعية معاشة، فهل التقطت تلك الشخصية من واقع الحياة، لتقدمها في سفرك هذا المدهش؟
سيرة لا تقتصر على ما عاشه يعقوب، أو الرملي والمطوع وموسى البرق، وغيرهم من شخصيات العمل، بل هذا العمل سيرة وطن من خلال حيوات ثلاثة أجيال: الآباء، الأبناء، والأحفاد...
هذا العمل مختلف عما ألفناه في أعمالكم السردية السابقة، إذ تقدم عوالم يجهلها أكثر قرائك العرب، من حيث الجغرافية، بادئاً ببلدة عطوة الصغيرة شمال بلدات زليفات، لتطوف بعد ذلك بعد هروبه ورفاقه على مناطق وتجمعات سكانية، رصدتها على لسان الراوي يعقوب حمود الرضيع، مثل جبال طويق، «العارض» الرياض، أرض الحمادة، نفود الثويرات، صحراء الصمان، سوق المقيبرة والبطحاء، ميدان دخنة، مدينة الظهران، بريدة حائل والأحساء، والدبدبة ميناء العقير، تاروت دارين. ثم في الكويت، النويصب، الخفجي، وحتى العراق الزبير,البصرة...
ولذلك قد توصف هذا الرواية بالرواية الجغرافية، وأيضاً بالتاريخية والاجتماعية. كونها ذات ثلاثة أبعاد. بل أحسبها سفراً استخدمت فيه عدة فنون أدبية منها الشعر والسيرة الغيرية، إضافة إلى الثراء المعرفي في جوانب أخرى، تاريخياً وجغرافياً وقيمياً.
هي المرة الأول التي يأتي عمل روائي بثيمة الهجرة لشخصيات نجدية، على عكس ماعرف عن مجتمعات الصحراء، وخاصة النجدية منها، حيث يرتحلون بحلالهم بحثاً عن مراعٍ، أو للتجارة، لكن أفرادهم لا يهاجرون فرداً بحثاً عن وطن بديل، وهذه الرواية تقدم وجهاً آخر على يقين أنه من الواقع لهذا المجتمع قبل طفرة النفط في سبعينيات القرن الماضي. ليسوا بشهرة الحضارم في هجراتهم ولا العمانيين طلباً لمعيشة أفضل والاستقرار في أوطان جديدة مثل شرق إفريقيا وشرق آسيا.
في هذه الرواية نجد سكان بلدات الزليفات من طراز ديناميكي، لا يستقرون ولا يخضعون للجور، من خلال شخصيات غير مركبة بل مثلية الطباع والمزاج والروح غير متقلبة. فالمطوع والرملي ويعقوب والبراق وفضيلة وتلك الشخصيات التي زاملت أو عايشت يعقوب ظلت في تركيبها على نسق واحد منذ بداية ظهورها وحتى نهاية الرواية. وهذا يدلل على أنك استطعت انتقاء شخصيات روايتك من واقع معاش، لتقدم مجتمع ستينيات وسبعينيات وثمانينيات وحتى بداية القرن الجديد، وتحولاته، من حياة الشحة والكفاف، إلى حياة التطور والتمدن بفضل استقرار الأوضاع التي ساعدت على استغلال الموارد، في سبيل النهوض بمجتمع يستحق حياة كريمة، تضعه في مصاف المجتمعات الحديثة.
والملفت أن ذلك التطور قد واكب جميع مناحي الحياة، ولم يقتصر على ذلك فنجد الشريد يعقوب يتحول إلى رجل مال وأعمال، بل ويتعلم على يد زوجته فضيلة القراءة والكتابة، وأن يسوق سيارته، وتلك لها دلالات عميقة سواء في شخص فضيلة ويعقوب وما يرمز إليه في علاقة عميقة ومتجذرة بين الكويت ونجد، وذلك التحول الكبير في شخص يعقوب، وكأنكم توحون لقارئكم بانطلاق الملك عبد العزيز من الكويت في محاولة لتوحيد الجزيرة بدعم الكويت في بداية القرن الماضي.
وكما هي ثيمة الهجرة في روايتكم، أيضاً برزت ثيمة الفقد، بداية موت الأم أثناء وضعها ليعقوب، وما لذلك الحدث من أثر على شخصيته، ثم الرحيل عن زليفات تلك التي مثلت له معاناة ذكريات مؤلمة ظل يحملها، ثم فقدان والده في غيابه، فقدان بلدته التي مثلت له الجور، بداية حياته، ليتوالى الفقد بين وقت وآخر.
فقد الأم، ومسقط الرأس الزليفات الذي ظل يصاحب مراحل حياته، بل وتبقى الزليفات محور الأمكنة، حاضرة طوال صفحات الرواية، من خلال من رحلوا من سكانها إلى الرياض والكويت والعراق والشام. إلا أن الإحساس يكررها وبجور ظل يحمله يعقوب تجاهها يتغير بعد عقود ويتحول إلى حنين «زليفات» لها وقع يثير مكامن يعقوب حمود الرضيع، كلما ابتعد عنها داهمته الأشجان المتضاربة؛ فهو بين مدٍّ وجزرٍ، حزنٍ وفرحٍ، حبٍّ وكرهٍ... زليفات ليست بلدات متناثرة بين شموخ طويق الأشم ونفود الثويرات الأنقى بسطوع شمس نجد عليه؛ لتجعل رمضاءه عشقاً دائماً، إنها بلدات تتناثر كاللؤلؤ المنسوج بخيط ذهب يجمعها على صدر امرأة فائقة الجمال؛ لأن أرضها عطرة تنافس بعد تجمعها أي أرض أخرى». فهل تلك المشاعر على لسان الراوي العليم يعقوب، وقد تحولت الكراهية إلى حب، أم أنه تدخلك رفعة لقيمة الأوطان؟.
حين ترصد مراحل التغير والتطور في شخصية يعقوب، من بلدته في الزليفات، إلى رؤيته لأول مرة لسيارة بعد هروبه ورفاقه منها، تلك التي حملتهم من بلده العم نافع إلى «العارض» الرياض، وهناك يتم اقتناء راديو لأول مرة، ثم رحلته إلى الكويت، وهناك يشاهد التلفزيون لأول مرة، بل والسينما والمسرح، ويشاهد نساءً من جنسيات مختلفة، بألبسة يراها غير محتشمة بقياس بيئته، وما تلاه ذلك من علامات التطور أثناء ترحاله، وعودته بعد عقود إلى الرياض وقد أصبحت ما كان يعرفها أطرافاً في قلب الرياض، بعد أن اتسعت وتعددت أسواقها وميادينها وشوارعها وطالت عمائرها...
سِفر عظيم وثري وشيق، خاصة إذا ربطنا بين تحولات يعقوب والوطن، وكأن الوطن بجميع أوجهه قد تمثل في يعقوب بتغيرات أحواله، حتى ذلك السخاء الذي تركز على توظيف جزء من ثروته لبناء مشاريع ضخمة ثقافية وإنسانية بداية في الكويت مروراً بالرياض وبلدات زليفات. وعنف الفكر التكفيري في محاولة قتله، كل ذلك وغيره قدم لنا وطناً بجميع أوجهه تاريخياً واجتماعياً إلخ...
ذلك النسيج بين حكايات حياة الأب حمود، وحياة الابن يعقوب ورفاقه أعطى الرواية أبعاداً وانزياحاتٍ قربت أوضاع مجتمعات الماضي إلى فهم القارئ لطبيعة العلاقات بين الأفراد والمجتمعات، وهذه قدرة تحسب لكم إذ أن الأنماط الحكائية المكررة في بعض الروايات تبعث على الملل، بينما في روايتكم منحتني كمتلقٍّ دهشة المعرفة ولذة تتبع تلك الحيوات التي لا أتوقع نسيانها، بل أشعرتني بصدق فني في طريقتك المختلفة هذه.
توظيف الرؤيا «لكن خيال امرأة عفيفة طاهرة، تتعبد؛ هو ما يتكرر عليه في كل حلم». ثم زيارة رجل في حلم أخيه يهديه ثلاثة اثواب له ولإخوته ومن بينهم: أبو عبيد، أبو محمد، يعقوب. لتتحكم عوالم الأحلام والغيبيات بشكل لافت، حين تتحقق وكأنها أقدار وليست أوهاماً ورؤى تخطئ وتصيب، وكأنكم تقدمون وعي ذلك المجتمع كما هو، وهذا ما يقرب للقارئ إيقاع حياة تلك المجتمعات بكل تنوعها عقدياً وقيمياً وما ورثوه من عادات وتقاليد.
الراوي العليم وظفتموه لنثر التساؤلات، فتارة يحكي ليعقبه يعقوب كراوٍ أساسي، ليأتي سارد ثالث وذلك ما أعطى للرواية سلاسة ومرونة وأبعدها عن جمود الحكي وخفف عنها تقريرية الصوت الواحد.
عودة يعقوب بأسرته إلى الكويت خاتمة غير متوقعة، وربطك الحكي، عودة على بدء لينجلي أسلوب الحكي الذي بدأه في أولى صفحات العمل الراوي يحكي لأولاده الثلاثة عرب سكرتيره الذي يدون ما يتفوه به، ولتتلقفه فضيلة وتعيد ترتيبه حتى يخرج في كتاب نفترضه هو ما بين يدينا كرواية بعنوان ارتحالات يعقوب النجدي.
والأروع دور فضيلة المختلف بعد زواجها منه، تلك المحبة العطوف من علمته القراءة والكتابة، بعد أن كان يعاني من رهاب النساء وأعادته إلى طريق إنساني سوي، ولحبها له استمرت تدير أعماله باسمه دون تغييبه، نتيجة لما تعرص له من ضغوط وتقدم في السن، لتنفذ المشاريع الخيرية هنا وهناك.
عمل فيه من سحر المكان، وعمق إنساني نادر، وصدق فني أوصلني كقارئ إلى التعاطف الكامل مع شخصيات هذه الرواية وكأنني رفيق لهم وأحد أفراد ذلك المجتمع التواق للحياة والتغير والمعاصرة.
صديقي العزيز إن المتابع لنشاطكم الإبداعي ورصدك لما يصدر على مستوى المملكة من أعمال أدبية، وأنشطة نوعية وعطائكم المتنوع، يحسب في خانة همكم الوطني، وكل ذلك يحسب لقدرتكم على تنظيم الوقت واستغلاله الاستغلال الأمثل. وذلك من سمات الكائن الخلاق والمحب لإنسانه ورفعة وطنه.
** **
- الغربي عمران