ذو الرمة هو غيلان بن عقبة يُكنَّى بأبي الحارث (77هـ- 117هـ)، عاش أربعين عاماً ورحل عن دنيانا، لكن قصائده باقية ممتلئة بالغربة بلغة بدوية قوية، ومن رصانة شعره قوله:
يا رَبُّ قَد أَشرَفَت نَفسي وَقَد عَلِمَت
عِلماً يَقيناً لَقَد أَحصَيتُ آثاري
يا مُخرِجَ الروحِ مِن جِسمي إِذا اِحتَضَرَت
وَفارِجَ الكَربِ زَحزِحني عِنِ النارِ
كان شاباً بدوياً تعلَّم القراءة والكتابة وأهل البدو لا يهتمون بالقراءة والكتابة لأن الكتابة عيب عندهم، لكنه خالفهم وتعلم وحفظ القرآن الكريم وأصبح الدين الإسلامي سبباً رئيساً في تطور شعره، وابتعد عن العصبية القبلية ولم يرفع المدح إلى المراتب العليا كالشعراء القدامى، وبالرغم من بداوته وفقره كان راجح العقل عفيف النفس، وكان محافظاً على صلواته، أُعجب العديد من الشعراء والنقاد القدامى بشعره، وعد من كبار الشعراء وجعلوا منزلته كمنزلة أمرئ القيس في الجاهلية، حفظ شعره كثير من عامة الناس وخاصتهم مثل الخليفة هارون الرشيد الذي ألمَّ بديوانه. قدم شعره خدمة للمعاجم العربية، إذ يرجع مؤلفوها إلى دواوينه لاستخلاص اللغة العربية النقية الخالصة وتقديمها للقارئ؛ ومنها: معجم لسان العرب له ألف وثلاثة وأربعون شاهد من شعره. ذاع صيته وأول قصيدة له في ديوانه وهي المعروفة بالبائية الكبرى فكثيراً ما عبرت عن شعوره بالغربة والتغرب وسط مجتمعه وأهله يقول:
ما بالُ عَينِكَ مِنها الماءُ يَنسَكِبُ
كَأَنَّهُ مِن كُلى مَفرِيَّة سَرِبُ
وَفـراءَ غَرفِيّة أَثأى خَوارِزُها
مُشَلشِلٌ ضَيَّعَتهُ بَينَها الكُتَبُ
نجد إحساسه بالغربة في طللياته التي تناولت موضوعات عدة عن الغربة الاجتماعية والمكانية والزمانية فحرص على توفير كل مقوماتها وتقاليدها القديمة.
من دوافع شعوره بالاغتراب كان خلافه مع أهله وبخاصة أخوه الشاعر الكبير مسعود بن كعب الذي حثّه على الإكثار من مدح الخلفاء ليزداد ماله لكنه رفض، ومن دوافع غربته أيضاً أنه عندما وقع في الحب وأدركت عيناه مي بنت سنان فعشقها وراح يذكر اسمها الصريح في شعره ووصل ذكرها إلى أكثر من مئتى مرة. وتعد معشوقته هي الملهمة الأولى له وربة شعره الرائع فكانت القوة الخافية التي أشعلت بين جوانحه ناراً لا تخمد ولا تنطفئ، وقد تمكّن منه شعور الاغتراب عندما رفضته لأنه رجلٌ دميمٌ أسود وقال في قصيدته:
أرى الحُبَّ بالهجرانِ يُمحى فيُمَّحى
وحبُّكَ ميًّا يستجِدُّ ويربحُ
ذكرتُكِ أنْ مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ
أمامَ المطايا تَشْرَئِبُّ وتسنَحُ
رُفِض من محبوبته بطريقة فيها تنمر وإساءة أدت إلى نزوحه والوحدة والانفراد والهروب إلي الصحراء والرمال وأخذ يخاطب ناقته التي أخذت - بشكل غريب- مكانة محبوبته مي فيقول:
زار الخيال لمي هاجعاً لعبت
به التنائف والمهرية النجب
أخا تنائف أغفى عند ساهمة
بأخلق الدف من تصديرها جلب
وفي قصائد عدة له عبر عن شعوره بالغربة مخاطباً الحيوانات والطيور والجن والرياح والنجوم في السماء تعبيراً عن اغترابه الاجتماعي والنفسي ومن دوافع غربته كثرة ارتحاله وبحثه عن الماء والكلأ فآلامه دائمة ومبرحة ليلاً ونهاراً، ومن دوافع غربته حالته الصحية السيئة بسبب مرض(العضال) منذ أن كان صغيراً حتى توفي به، ولان المقام يطول بالحديث عن الشاعر الأموي الغريب لا أجد في نهاية مقالي أفضل من قوله:
مُدَئِبَة ُ الأَياَّمِ وَاصِلة ٌ بِنَا
لياليَها حتَّى ترى وضحَ الفجرِ
** **
- د. شعبان مرسي