عبدالرحمن الحبيب
ثمة توجه عالمي بحماية الاقتصادات المحلية (الحمائية) ودعم التجارة المحلية على حساب المنافسة العالمية بغض النظر عن مخالفتها لنظم التجارة العالمية التي يبدو أن أنظمتها ستذروها الرياح الحمائية. إنها حقبة جديدة من السياسة التجارية والصناعية مضادة للعولمة وإن كان البعض يرى أن العولمة التجارية قديمة قدم التجارة وستظل معها لحاجة المنتجين الدائمة لأسواق جديدة وحاجة المستهلكين لمنتجاتها..
لكن بحسب مجلة فورين بولسي أصبحت السياسة التجارية سياسية بالمعنى الضيق، أي تقررها الحكومات مثلما تقرر تفاعلاتها الدبلوماسية وعلاقاتها مع الدول الأخرى، موضحة أن هذا الاتجاه بدأ منذ الأزمة المالية العالمية عام 2007، ثم تسارع بحدة أثناء فترة الإغلاق بسبب جائحة كورونا عندما شرعت البلدان المنتجة لحماية سلاسل التوريد والتركيز على الإنتاج المحلي بدلاً من التجارة العالمية، مما جعل الجغرافيا السياسية عاملاً مركزياً في السياسة الاقتصادية وظهور مصطلحات جديدة مثل «تضامن الأصدقاء» (Friendshoring) ويقصد به تحالف التصنيع والتوريد بين البلدان ذات القيم المشتركة؛ ومثل «تفضيل الأقرب» (Nearshoring) ممارسة العمليات التجارية بين البلدان القريبة جغرافياً.
السؤال هو ما إذا كان هذا الاتجاه الاقتصادي الجديد مفيدًا للعالم؟ تختلف إجابات الخبراء بشكل حاد في بعض الأحيان، فمن يراها ضارة على المدى الطويل للاقتصاد العالمي، ومن يراها حالة طبيعية لها محاسنها وعيوبها، حسبما تنشر فورين بولسي مقالتهم، لنستخلص هنا أهم ما جاء فيها.
قدم آدم بوزن، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، تقييماً حول توجه السياسة الاقتصادية الأمريكية. بوزين ليس ضد السياسة الصناعية الحمائية التي يرى أن لها فوائدها، بقدر ما هو ضد كيفية إعطاء واشنطن الأولوية للتصنيع المحلي على المنافسة الأجنبية. يجادل بوزين أن تحركات الولايات المتحدة للانسحاب من التجارة مع الصين، وإثارة سباق الإعانات، وتعظيم الإنتاج المحلي على التطور العالمي للتكنولوجيات الجديدة، تتعارض مع قرون من النظرية الاقتصادية.
بدءًا من إدارة ترامب، وتسارعًا في ظل إدارة بايدن، أعطت السياسة التجارية والصناعية للولايات المتحدة الأولوية لإعادة نقل إنتاج التصنيع إلى الولايات المتحدة. على الرغم من خلافاتهما، فكلتا الإدارتين تجاهلت الدول الأخرى في هذا المسعى. كما هاجم كلاهما التجارة والاستثمار الدوليين على أنهما يضران بالاقتصاد والأمن القومي للولايات المتحدة، على الرغم من أن القواعد الخاصة بهذا النظام بالذات وضعتها الولايات المتحدة وتخدم مصالحها.
«سوف يندم العالم على تراجعه عن العولمة»، هذا عنوان مقالة إسوار براساد وهي أستاذة السياسة التجارية في كلية دايسون بجامعة كورنيل ومؤلفة كتاب «مستقبل المال» الذي صدر مؤخرًا؛ ذاكرة أن الهدف من العولمة هو تقريب العالم من بعضه البعض، وإشراك الاقتصادات المتقدمة والنامية في شبكة من الروابط الاقتصادية والمالية المفيدة للطرفين. منذ منتصف الثمانينيات تقريبًا، توسعت التدفقات التجارية والمالية بين البلدان بسرعة حيث أزالت الحكومات الحواجز أمام هذه التدفقات.
براساد تدرس التأثيرات على الاقتصادات الأصغر، وترى إن تبني الصين وأوروبا والولايات المتحدة وحتى دول مثل الهند، لسياسات صناعية حمائية، ستقلل من أهمية التجارة الحرة في هذه العملية، مما سيؤدي إلى معاناة العديد من الأسواق الناشئة والدول الفقيرة، فقد انخفضت التجارة والتدفقات المالية إلى ما دون ذروتها بكثير، وستتحمل البلدان الفقيرة العبء الأكبر.
لن يكون من العدل بث كل هذه الانتقادات دون إعطاء فرصة للبيت الأبيض للرد، كما تقول فورين بولسي التي أجرت مقابلة مع الممثلة التجارية الأمريكية كاثرين تاي. تعارض تاي المنتقدين الذين يقولون إن الولايات المتحدة تشجع المنافسة غير العادلة، مؤكدة أن سياسات حكومتها هي نتيجة نقاش وجدل ديمقراطي؛ معترفة بأن السياسة «وحش» مختلف عن التجارة، وهي بالضرورة أكثر عملية من علم الاقتصاد النظري. لكنها تقدم أيضًا حجة حول كيف تعمل حكومتها على «التخلص من المخاطر»، وليس إلغاء العولمة، في عالم كان بالفعل عالمًا غير متكافئ، وأصبح أكثر ظلمًا بسبب صعود دولة لا تلعب دورها مثل أي دولة أخرى (تقصد الصين).
ستظل هذه الاختلافات في وجهات النظر حادة ولن تخف حتى تظهر الآثار بشكل أوضح، فليس من المستغرب أن تشهد التجارة الدولية اضطرابات، كما كتب رافي أغراوال، رئيس تحرير مجلة فورين بوليسي، فبعد أن بدأت الأزمة المالية العالمية عام 2007، تباطأ الاتجاه المتنامي للعولمة منذ عقود من العولمة ثم بدأ في عكس مساره. أما ظهور جائحة كورونا في عام 2020، فقد أدى إلى قطع سلاسل التوريد على الفور. ركزت البلدان والشركات على ما يسمى بـ «التأليف القريب» و»تكوين الأصدقاء» (تحالف التصنيع والتوريد بين البلدان ذات القيم المشتركة). ثم دخلت روسيا أوكرانيا، وبدأت الجغرافيا السياسية في التأثير على التجارة بشكل أكبر. أضف إلى ذلك الحرب الباردة التي تختمر بين الولايات المتحدة والصين، إضافة إلى موجة القومية والشعبوية في جميع أنحاء العالم،.. كل هذا يمكن للمرء أن يبدأ في رؤية لماذا يبدو أن العالم قد شرع في عصر السياسة الصناعية الحمائية. من الولايات المتحدة إلى الصين والهند وأوروبا وما وراءه ، تتجه الاقتصادات الكبرى نحو الداخل، مفضلة التوسع المحلي على التجارة الحرة والتدفق العالمي للبضائع.