د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
مدخل
--
** مرَّ عامٌ منذ اعتمدتُ آخرَ عددٍ أشرفتُ عليه من «المجلة الثقافية» - وهو العدد ذو الرقم 721 الصادر في 21-22 رمضان 1443هـ - الموافق 22-23 أبريل (نيسان) 2022م، ضمن العدد 17991من أعداد الصحيفة، ومعه طويتُ آخر أوراقي في العمل الصحفي، وغادرتُ مبنى مؤسسة الجزيرة العريقة بعد ثمانية وثلاثين عامًا 1985-2022م من الكتابة المنتظمة والإشراف على الشؤون الثقافية بمسمى: رئيس قسم ثم مدير تحرير، وتقديم صفحات متخصصة ( قراءة في مكتبة - واجهة ومواجهة - حوارات مفتوحة ) مارًا بمراحل: (التسيير والتجسير والتغيير والتقدير) التي سبق أنْ كتبتُ وحكيتُ عنها، ولو كان الأمر بيدي لما لبثتُ هذا العمرَ الطويل.
تمهيد
** في مسيرتي العملية أغلقتُ صفحاتٍ وفتحتُ أخرى، وغادرتُ مواقعَ فاستضافتني سواها، وظللتُ محتفظًا بالذكرى المورقة التي تربطني بها، والوصل الشخصيِّ والنصيِّ معها؛ فكذا صنعتُ بعلاقتي مع الجامعة التي اختارتني معيدًا فيها، ومصلحة الإحصاءات العامة حين انتقلتُ منها، ومعهد الإدارة العامة بتقاعدٍ مبكر، والقطاع الأهلي بعدم تجديد العقد وإن استمرَّ العهد، والإذاعة فقد اكتفيت، والجزيرة كما أشرت، وبقيت لي ذكرياتٌ أثيرةٌ فيها، ولو أذن الوقتُ بكتابتها لربما مثّلتْ عمرًا ثريًّا متجددًا بالتغيير والتطوير، ويعي هذا من جمعوا مثل تعددها.
** سرتُ في انشغالاتي بنظرية «التوازي» ولم أأْتمرْ بنظرية «التوالي»، وبينهما مسافاتُ الجِدِّ لا الجَدّ، والسعي المتصل لا التمني المنفصل؛ فساعات الأيام وشهور الأعوام قادرةٌ - بعون الله - على تحقيق أكثرَ من إنجاز.
** نقلاتٌ مفصليةٌ وأخرى تفصيليةٌ لا أدّعي مهارةً فيها؛ فقد جرتْ بانسيابيةٍ لم تستدعِ مني كبير جهد بل هي فضل من الله سبحانه، وأستعيدُ منها - على عُجالة - اعتذاري عن الإعادة بالرغم من إغراءاتها ومن غير أن يكونَ لديَّ بديل عنها لتشبعي منتظمًا في الجامعة ومعهدها العلمي عشرة أعوام من الصف الأول المتوسط حتى إكمال الدراسة الجامعية في «الجغرافيا»، ثم زدتها عامًا بانتظامي المسائي في السنة التمهيدية من الدراسات العليا بالتخصص نفسه، ولرغبتي في أجواءٍ أخرى آثرتُ تخصص الجغرافيا على اللغة العربية اكتفاءً بتخصص الوالد رحمه الله وبما وعيتُه منها.
** كانت محطة «الإحصاءات» نقطة استراحةٍ لم تتجاوز عامًا واحدًا؛ فقد جاءت الوظيفةُ منقادةً في البدء، عسيرةً عند الانفكاك، وكان لها الدورُ الأهمُّ في معرفة المدير العام لمعهد الإدارة بي وعرضه الانتقال عليّ؛ فكأنها معادلة «البحر والسواقي» التي نقلت المتنبي من الشام إلى الكنانة، ولم يخب ظني كما خاب ظن أبي محسّد؛ فقد كان المعهد بحرًا بلا ضفاف أمضيتُ فيه عشرين عامًا، وبالدعاء الصادق لا الإمكانات ولا العلاقات اختارتني وظيفةُ «القطاع الأهلي» القياديةُ على غير توقع أو بحث فمكثتُ سبعة عشر عامًا كتبتُ بعدها آخرَ سطرٍ في الوظيفة الرسمية الحكومية والأهلية.
** خلال هذه الأعوام عبرَتْ فترةُ التعاون الإذاعي والصحفي مورقةً بالتجربة الثرية مع إذاعة الرياض خمسة عشر عامًا، ومع صحيفة الجزيرة، وغادرتُهما بإرادةٍ ذاتيةٍ كما حدث مع ما سبقهما أو زامنهما، وآمنتُ مثلما أزداد يقينًا بأن توقيت الخروج يعادل في قيمته توقيتَ الدخول.
القرار..
** الوقتُ يمتلئُ بالعمل وبالفراغ؛ فلا تزيد ساعةُ رئيس ولا تنقص ساعةُ مرؤوس، وسائقُ المنزل أكثر انشغالًا من صاحبه، وعاملتُه أقلُّ فراغًا من سيدته، ونحنُ من يملأُ مسافاته، أو يختصر مساحاته، وسألني كثيرون - حين اطَّلعوا على مغادرتي موقعي في الجزيرة - كيف ستقضي وقتك؟ ولم يردْ هذا السؤال ضمن حساباتي؛ إذ لم أشكُ - طيلة مسيرتي - من فائض وقت، ونادرًا ما شكوتُ من قلته، وحَرَصتُ - وما أزال - على إدارته بما يمنحني أوقاتًا داخلَهُ حتى لَأظنُّني زمنَ العمل دون عمل، وزمن الفراغ دون فراغ، و»نظرية التوازي لا التوالي» تفسر هذه الأحاسيس.
** لم أبلغ أُحدًا بقرار مغادرة الصحيفة بصورة نهائية عدا أستاذي خالد المالك رئيس التحرير الذي اتفقتُ معه على أن أستمرَّ حتى نهاية شهر رمضان كي لا يُحسَّ القارئ والكاتبُ بانقطاع مع المرحلة التالية إذ كنا معتادين على إيقاف المجلة الثقافية في مفتتح العشر الأواخر.
** كتبتُ إمضائي الأخير: (أستودعكم الله) للعدد الصادر في الواحد والثاني والعشرين من الشهر الكريم 1443هـ، وكنتُ في مكتبي بالجريدة يوم العشرين مراجعًا الصفحات الاثنتي عشرة؛ فأجزتُها بعدما دققتُها وتابعتُ صورَها وشروحاتها ولوحاتها وترويساتها وملاحظات الكتّاب حولها وكلَّ ما يتعلق بها، ومضيتُ مطمئنًا على نهايةِ مرحلة.
** يقع مكتبي في الدور نفسه الذي يشغله رئيسُ التحرير، وليس بيننا سوى مكتبين ومصعد، وإذ أقفلتُ مكتبي للمرة الأخيرة لم أحمل ورقةً واحدةً معي؛ فما للعمل يبقى للعمل، ولم أعتد الخلط بين العام والخاص، وبالمصادفة عند المصعد التقيتُ بمدير مكتب رئيس التحرير الأستاذ عبدالإله القاسم الذي بادرني بالقول: إنه سيضع لي حاويتين أو ثلاثًا لأضع أوراقي فيها تمهيدًا لنقلها إلى المكاتب الجديدة التي هيأتْها المؤسسةُ بعد تأجير الجزء الغربي الذي يضم مكاتبنا، فابتسمتُ وسلَّمته مفاتيح المكتب، وأبلغتُه بقراري الذي فوجئ به، ولم يعلمْ عنه من جانبي إلا الذين انتبهوا إلى مقالي الوداعيِّ في الأقسام الفنية قبل نشره، ولم يحدثني أحدٌ منهم بشأنه فلا أحسبهم التفتوا إليه.
** لعل أستاذنا أبا بشار لم يتوقعْ بلوغ المجلة عددَها الأخير «في وقتي وَفق ما وعدتُه»، واتضح لي هذا حين تأخر صدورُ العدد عن موعده؛ فحين عُرض عليه للإجازة النهائية أوقف العدد وألغى اللوحة التشكيلية التي كنتُ أعتمدها في صدر الصفحة الأولى، وكتب مكانها كلمةً باذخةً عنوانُها: (ومَنْ مثلُ الدكتور إبراهيم التركي؟!)، وسأظلُّ ممتنًا لها كما له، وقد كتبتُ مقالًا تاليًا شكرتُ فيه ما حظيتُ به منه ومن الكثيرين بعد ترجلي من موقعي، وجاء عنوانه: «(ليت للشكر جناحين وقلبا!) نُشر في عدد الخميس 22 مايو» أيار» 2022م.
بعد مرور عام..
** بتخففي من الأعباء العملية لم يتغير ترتيبُ وقتي؛ فقد ارتبطتُ منذ عقود بالعملين التطوعي والاستشاري، وظلَّ لهما في اهتمامي نصيبٌ أوفى، وقد يعسر ذكرُ الجمعيات والمراكز والمؤسسات التي انتميتُ إليها، وحققتُ فيها - بحمد الله - موقعًا وإيقاعًا، أو كذا أظن، ومَن يخلص لها سيشعر بالامتلاء الشعوري، وماكانت يومًا ولن تكون للتباهي؛ فالتطوع زكاةُ البدن، والاستشارات نتاجُ الذهن، وبهما يكتمل البناء والعطاء، والإشارة إليها حفزٌ للاقتداء.
** عايشتُ جمعية «ألزهايمر» منذ تأسيسها، وشاركت في مناسباتها، ورأستُ لجنة التطوع فيها بضع سنين، وبلغ عدد المتطوعين حينها أكثرَ من ألفي شاب وشابة من نابهي ونابهات الوطن، وفي الجمعية الخيرية الصالحية أشرفت على مهرجان عنيزة الثقافي، وقدَّمنا ستة مواسم حفلت بالندوات والمحاضرات والإصدارات والتكريم للرواد الأحياء، وقبل إعلان قيصرية الكتاب في الرياض كنتُ أحد شهود اجتماعاتها وشاركتُ في ندوة افتتاحها بحضور سمو أمير الرياض وسمو نائبه، كما فعلتُ في افتتاح معرض كتاب القصيم بعنيزة وألقيتُ الكلمة الرئيسة فيه، وكذا شهدتُ مولد جمعية واحة الوفاء، وتأسيس مجموعة (عبق) أو «العربية دون قواعد»، وأسهمتُ في لجنة أهالي عنيزة، وعضوية الهيئة الاستشارية لكرسي القصيبي في جامعة اليمامة، وأرأسُ مجلس إدارة شركة تعليمية ولجنتها التنفيذية، وسواها مما لا داعي للإطالة فيه، عدا المشاركات الدورية في أنشطةٍ منبرية ولجانٍ مؤقتة ومراجعات علميةٍ وبرامج إعلاميةٍ، ومع بعضها لا معنى لافتراض وجود فراغ؛ فكيف بها جميعِها؟! ومن المفارقات عدمُ انضمامي لعضوية أي نادٍ أدبيٍ أو جمعيةٍ ثقافية رسمية دون انكفاء، والحمد لله على نعمة الصحة والعطاء.
** اقترحتُ ونفّذتُ فكرة التحلل من العمل الوظيفي قبل بلوغ السنِّ النظامية إلا لمحتاجي الوظيفة ماديًا؛ ففي الحياة مواسمُ أجمل من الكرسي والسكرتير والخدم والأضواء، وأبرزها قيمُ العمل التطوعي وثراءُ العمل الاستشاري، والعمرُ لن تطيله الوظيفةُ ولن يُقصرَه تركُها.
خاتمة
** ذكرى سنوية لم أشأْ أن تمرَّ دون استعادةِ ملامح فيها وعنها، وهي مناسبةٌ لأحمل التقديرَ أجملَه للأوفياء والأصفياء؛ فلن يبقى بعدما ينفضُّ السامر سوى الرضا والنقاء من غير أن تُزاحمَ مرحلةٌ أخرى، أو يدفنَ عملٌ عملًا، أو ينشغلَ سابقٌ بلاحق، أو يُعرِّض لاحقٌ بسابق؛ فإنما نحن عابرون مؤتمنون منتمون مؤقتون.
** «العُرف» يضوعُ ولا يضيع.