د.عبدالله بن موسى الطاير
جيل الطيبين معقّد، مُعتد بنفسه، ولا يرى في الأجيال التالية سوى الرماد الذي خلفه. هكذا يبرر الطرف المغاير تسارع خطواته في الانفصام عن ماضيه، والبراءة من موروثه، وخلطه بين الوعي والجهل في بوتقة التفاهة. في كل جيل هناك تافهون، وربما هم في جيل الطيبين أكثر، لكنها مستورة بقلة الحيلة في إعلانها وإعلاء شأنها، ومتوارية خلف سياج المظاهر، ومندسة في دهاليز النفاق الاجتماعي. لا يخلو عصر من العصور من التباين في إمكانات الناس وإدراكهم ووعيهم ومدى تمسكهم بالقيم وإخلاصهم للمبادئ، بيد أن تطور الوسائل الناقلة والكاشفة للمستور سلّعت المحتوى؛ فروّجت للخارج عن المألوف وللسقوط، وبوّرت المعتاد من الأقوال والأفعال، وامتطى هذه القوة الاتصالية كل تفكير سطحي شاطح بغض النظر عن عمر القائم بالاتصال.
يقال إن الثورات يبدأها المتهورون، ويديرها الأبطال، ويقطف ثمارها الجبناء، ولذلك ساعد إحجام العقلاء عن الاستفادة من الوسائل الاتصالية الحديثة إما كسلا، أو ترفعا، أو جهلا، على تشكل فراغ كبير في المحتوى المتزن، قابل ذلك جرأة تصل حد التهور من التافهين للسيطرة على تلك الشبكات، فتصدروا المشهد بكل اقتدار، فالطبيعة لا تقبل بالفراغ. اكتفى العقلاء من نصيبهم بالحوقلة والتنظير وربما الشتم والتطير، فيما هم يشاهدون غبار القافلة التي أفلت تغذ السير إلى المستقبل بدونهم.
تبسيط الأمور، وتقصير الجمل، وتهجين اللغة، وتلوين المحتويات الهابطة لتبدو أكثر بريقا، والتفسير الرغوبي وتشييد بالونات ضخمة من الأمنيات ينظر لها البعض على أنها مستهدفات لمجتمعات أكثر استقرارا وتعايشا وإنجازا بعيدا عن عقد الماضي وتحدياته وعداواته الوهمية. لكنهم يغفلون حقيقة أن التافه لا يفكر في عواقب الأمور لا يأبه بالمآلات، ولذلك يخبط خبط عشواء لتحقيق «الترند» بغض النظر عن انعكاساته على وطنه ومجتمعه، إذا لا يهمه في شيء ما يحدث بعد اللايك والرتويت والتصفيق والقلوب التي تغمره بالحمرة. ولذلك كان هذا التميز هو نقطة ضعف الحركة التافهية؛ المتهورون يمكن، من أجل الشهرة، أن يعرضوا استقرار أوطانهم للخطر، وأن يكونوا أكثر العوامل المحركة للخلافات والنزاعات رغم نعومة وسطحية ممارساتهم.
يقول آلان دونو صاحب كتاب نظام التفاهة «نمر اليوم في مرحلة تاريخية لا مثيل لها، تسود فيها سيطرة التافهين، ولنظام التفاهة هذا رموز تافهة ولغة تافهة وشخصيات وأدوات تافهة. أما سر نجاحه فيكمن في قدرته على إيهام الأفراد بكونهم أحراراً». ويعلق أحدهم بأن المجتمع الحديث انخرط في لعبة تبسط كل شيء وتتجاهل الجهد والحقائق المعقدة؛ لقد أصبح المجتمع يميل إلى كل ما هو واطي، وقصير وسطحي. ويضيف الدكتور آلان دونو أن متطلبات الجودة العالية قد تدهورت، حيث «غاب الأداء الرفيع، وهُمشت أنظمة القيم، وظهرت أذواق منحلة، وحررت الساحة من التحديات، ونتيجة لذلك سادت شريحة كاملة من البساطة الفكرية التافهة والجاهلة».
قبل ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، قدمت عالمة النفس الأمريكية كيمبرلي يونغ عام 1996 دراسة بعنوان «إدمان الإنترنت .. ظهور اضطراب إكلينيكي جديد»، خلصت فيه إلى «أن أفراد عينة مستخدمي الإنترنت يعانون من نفس الأعراض المصاحبة للمقامرة المرضية ... وباستخدام هذه المقارنة ... يمكن تعريف إدمان الإنترنت بأنه حالة من اضطراب السيطرة على الانفعالات التي لا تتطلب مواد مخدرة». إذا كانت هذه حال إدمان الإنترنت قبل نحو ثلاثة عقود، فكيف هي مع شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، والترند، وشغف النقل المباشر دون التثبت من المحتوى.
التافهون اليوم لا يتصرفون في قضايانا الاجتماعية حول العالم فحسب، بل إن هذا الزخم المختلط بين الواعي والجهل، وهو إلى الأخير أقرب، اقتحم القضايا السياسية والاقتصادية والدينية والطبية، وهي قضايا تتطلب قدرًا كبيرًا من المعرفة والإدراك، والصبر وتوقع المنقلبات. ويمكن ببساطة أن نراقب حال العلاقات الدولية في هذه العصر الذي سيطر عليه الترند، وكيف خرجت نقاشات الغرف المغلقة التي تدرس وتقارن وتوازن قراراتها إلى فضاء مجنون يملي على صانع القرار أو على الأقل يوجه أو يلهم قراراته مما يجعلها متسرعة، شعبوية، منافية للواقعية السياسية.
لا أريد أن أكون في طابور الناقدين الناقمين الممتعضين من كل شيء وغير القادرين على التحول والتغير، ولكن هناك حدود للمرونة التي يتمتع بها الشخص السليم، ويجمع العقلاء على أننا نعبر مرحلة شعبوية مفعمة بالهياط لا تلوي على شيء، وأن كل الأمنيات أن تكون عابرة وأن يأفل نجمها قبل أن تدفع هذا العالم إلى حرب مدمرة من أجل استعادة توازنه.