لم يكد ينتهي الربع الأول من القرن العشرين حتى ولد أخَوَان من عظماء الموسيقى العربية، أحدهما ولد عام 1923م وهو عاصي الرحباني، وثانيهما عام 1925م وهو أخوه وتوأمه الفني منصور الرحباني. كان للأخوين مشروع تجديدي في الموسيقى والغناء العربي، له ملامحه الخاصة موضوعاً وتلحيناً وغناءً، استقيا ينابيعه من التراث الموسيقي العربي، واتصلت روافده بالموسيقى الغربية العالمية. تمثَّل هذا المشروع في مجموعة من السمات الفنية التجديدية، أولها صياغة أغنية قصيرة، رقيقة، بسيطة، شفافة هامسة، بعيدة عن التطويل الممل، وثانيها: تهذيبها من الزخرف الموسيقي الذي يصيبها بالترهل الموسيقي، وثالثها: تخليصها من الموضوعات التقليدية النمطية، وأن كان ولابد فإلباس هذه الموضوعات القديمة ثياباً مغايرة وصبغها بصبغة جديدة، ورابعها: الاستفادة من الموسيقى العالمية أو استلهام روحها، أو المزج بين الأنماط الغربية والشرقية في الموسيقى والغناء، أما خامسها، والذي ضربا فيه بسهم وافر، هو المسرح الغنائي العربي ، فكانا من أبرز رواده.
لاقى مشروع الأخوين رحباني النجاح الكبير اعتماداً على نجاحهما في مزج كافة التأثيرات المختلفة، التي تأثروا بها أو أثرت فيهما، مع بعضها دون تنافر، بداية من الريف اللبناني والجبل، مروراً بالإنشاد الكنسي السرياني، ثم الطرب المصري الدرويشي والوهابي، والجمع بين ذلك كله وبين الهوى الأوروبي وتقنيات موسيقاه الأوركسترالية فكانت موسيقاهما جسرًا بين الشرق والغرب ونسيجاً من سدى الشرق ولحمة الغرب، سواء كان ذلك في أغنية أو قصيدة شعر أو زجلاً أو موشحاً أو إعادة توزيع لتراث غنائي قديم. فكان أن أحدثا تغيرًا جذريًا في الموسيقى العربية في التأليف والتلحين.
كان ميلاد الأخوين في قرية لبنانية ساحلية صغيرة إلى الشمال قليلاً من بيروت العاصمة، وهي قرية «أنطلياس» حيث الطبيعة الريفية الساحلية، التي شكَّلت مفردات الحياة فيها الخضرة، والجبل، والبحر، والتقاليد الريفية الأصيلة.
كان الأب، حنَّا عاصي الملقب بالرحباني، المتطبع بطبع «القبضاي» الشعبي أو «شيخ الشباب»، من مواليد سنة 1882م في مدينة طنطا في مصر، التي هاجر إليها والده فارَّاً من العسف التركي، قد عاد إلى لبنان حيث أقام في قرية رحبة، ومنها نزح إلى أنطلياس هارباً من مطاردة « الجَنْدَرْمة الأتراك» أو قوات الدَرَك أو الحرس العثماني كما حدث من قبل مع والده، وفيها تزوج من صبية مارونية وفدت عائلتها إلى نفس القرية نازحة من قرية الشوير في سفوح جبل صنين أحد جبال لبنان الغربية على ساحل البحر.
كان هذا الأب، مولعاً بالطرب الأصيل، فأنشأ مقهى على نبع الفوار في قرية أنطلياس، وجعله ملتقى لأمثاله وأصحابه و»العائلات المحترمة، التي عليها في بسطها وانشراحها أن تتقيد بأصول اللياقة والأخلاق الحميدة» كما كتب على لافتة علقها على المقهى حسبما روى ابنه منصور الرحباني عنه فيما بعد.
ولأن الطفولة هي أصفى ينابيع الحياة وأنقاها، وأكثر روافدها تدفقاً وغزارة واستمراراً، فلا شك أن مثل هذه الأجواء الريفية، الجبلية الساحلية، وهذه العادات والتقاليد الصارمة، التي عاش فيها الأخوان قد نفذت إلى خيالهما والذاكرة، فلاقت خيالاً خصباً ومشاعر تعي وتستوعب وذاكرة تسجل وتخزن ومن ثم استوطنتهما وانعكست على حياتهما، وأعمالهما، شعراً وموسيقى ومسرحاً، ثم أضاف إليهما بعداً ثالثاً، وامتزج بهما، صوت ملائكي النبرة، ساحر الإيقاع، ألماسي البريق، صوت فيروز القمري العذب عذوبة ينابيع أنطلياس القديمة، فكان صوتها الأرض التي نبتت فيه زهور الماضي من جديد وعادت من خلاله الحياة إلي موروث القرية «الضيعة» اللبنانية والجبل اللبناني، وكان صوتها اللوحة التي حملت الألوان والمشاهد والصور والرسومات والظلال، فصنعوا جميعاً عالماً خاصاً من الغناء والموسيقى شكَّل حلماً جميلاً امتد من لبنان إلى سائر العالم العربي. الأخوان رحباني الذين استثمرا الصوت الفيروزي الانسيابي الرائق جيداً بعد أن وقفا على إمكاناته، واكتشفا مساحاته، ودرسا طبقاته، فكان صوت فيروز الفضاء الذي حلقا فيه، والأثير الذي حمل ابداعهما إلى العالم وبفضله منحا الغناء العربي نَفَسَاً جديداً وفتحا أمامه براحاً كان في حاجة إليه.
ظلت الحياة البريئة العذبة، الحياة البعيدة، حياة الطفولة النقية، تلوح في الكثير من أغنيات الأخوين، ومسرحهما بداية منذ أول عمل مسرحي لهما مع فيروز في مهرجانات بعلبك الدولية عام 1957، وكان بعنوان «أيام الحصاد»، وهو عبارة عن مشهد فلكلوري عن عرس الضيعة، وشاركهما فيه الفنان نصري شمس الدين. ثم، عرس في القرية (1959) وموسم العز ، وجسر القمر، وجبال الصوان، وناطورة المفاتيح، وغيرها وصولاً إلى «قصيدة حب» في عام 1973، وكلها من بطولة فيروز. جميعها نرى فيها الموروث اللبناني، والحياة والطبيعة اللبنانية، التي تملَّكت الأخوين ودارا في فلكها ولم يستطيعا التخلص منها أو خلع ردائها ربما طوال حياتهما. كما غنت فيروز:
طيري يا طيّارة طيري.. يا ورق وخيطان
بدّي ارجع بنت صغيرة على سطح الجيران
وينساني الزمان على سطح الجيران
هو الحنين الذي لا ينتهي ولا ينطفئ ولا يلين، هو الحنين الذي يضيء ويشع وينير، والذي أيضاً لا يلقى مجيبا.
يا سنين اللي رحت ارجع لي
ارجع لي شي مرة ارجع لي
وانسيني ع باب الطفولة
تا أركض بشمس الطرقات
ولكن لم يكن للأخوين أن يأسرهما الماضي، وأن يعيشا أسيران له رغم جماله، بل حاولا أن يأخذنا منه كل جميل، وأن يتطلعا إلى كل ما هو جميل حولهما، فكان اللون الرحباني في الغناء والموسيقى.
وفي سعيهما لتطوير الأغنية العربية، وتخليصها من تطويلها الممل، وخلع عباءة الكلاسيكية المصرية عنها، حاول الأخوان البحث هنا وهناك عن مادة غنائية تناسب ما تاقا إليه، وتستجيب لما يتطلعان إليه ويأملان فيه، فبحثا عن بغيتهما في الموروث الشعبي «الفلكلور» اللبناني، من مواويل وأزجال وعديَّات (العِدِية: شعرٌ عامِّي شفهي) نقلاً أو توظيفاً أو تعديلاً مثل: عدِية (على دلعونا على دلعونا .. راحوا الحبايب ما ودعونا)، وقد أضافا إليها بعض الجمل التي تُبقي اللَّحن مناسباً لرقصات الدبكة الفلكلورية ولاقت مثل هذه المواويل والعديات طريقها في المسرحيات الغنائية التي وضعاها وحققت نجاحا كبيراً فيها.
وكذلك الحال في «الدبكة» اللبنانية، وهي رقص جماعي قبلي، من الفلكلور والتراث اللبناني الأصيل تختلف طرق تأديتها حسب الأغنية أو اللحن، ولا تقام إلا بمجموعة متراصة من النساء والرجال. ومن المعروف أن الأخوين رحباني قدَّما نسخا لبنانية مختلفة من «الدبكة» في أعمالهما القليلة الأولى وبعثا فيها الحياة، ولم يقتصر الأمر على الدبكة، بل امتد إلى الكثير والكثير من عناصر التراث والفلكلور الغنائي اللبناني. وكما ذكر الباحث والناقد السوري جان الكسان «لم يبق الفولكلور مع الرحابنة، مادة ثابتة وببغائية، بل تحول إلى كائن حي ينمو ويتطور، يتفرع ويرتفع».
ويمكن أن نرى هذه المعالجة للتراث والفلكلور اللبناني، أو إحيائه، وتنفسه على أيدي الأخوين رحباني في الأغنية الرائعة «يا من يحن إليه فؤادي» التي يعود تاريخها الى القرن الثامن عشر، وما زالت تؤدّى على أنها جزءٌ من الفُلكلور، بينما يرى بعض الباحثين أنها من الموشّحات، وغناها قبل فيروز والأخوين العديد من المطربين اللبنانيين مثل: متري المُرّ، ونزهة يونس، ثم قام الأخوان رحباني بإعدادها لتغنيها السيدة فيروز في اسطوانة أغاني من الماضي؛ ومطلعها:
يا مَنْ يَحِنُّ إليكِ فؤادي
هل تذكرينَ عهودَ الودادِ
هل تذكرينَ ليالي هوانا
يومَ التقينا وطابَ لقُانا
ولا يتوقف الأمر عند الموسيقى والإبداع اللحني عند الأخوين بل امتد للشعر المفعم بالعذوبة، فقد كتب الأخوان قصائد وأشعار وحوارات لأكثر الأغاني والمسرحيات التي قاما بتلحينها ووضع الموسيقى لها، وقد امتد تراثهما الشعري هذا ليشمل أنواعاً وفروعاً من الشعر العربي واللبناني بدءاً من القصيدة الكلاسيكية والتقليدية القديمة، مروراً بالشعر الحديث، إلى الألوان الشعرية الفلكلورية، مثل: الموشح، والزجل والعديات. وهو إن دلَّ على شيء فإنما يدل على قدرة كبيرة على استيعاب وهضم أشكال التعابير الفنية عبر عصورها المختلفة والقدرة على إنتاج وصياغة ألوان فنية تعبيرية لا تقل جمالاً عنها وتلبي المتطلبات الفنية والذائقة العربية الحديثة، وللحديث بقية.
** **
- د. محمد أبو الفتوح غنيم