محمد عطية محمود
يوشك المقدم على فعل الكتابة، أن يكون غواصًا في بحر الألم، أو متأثرا بدواعيه وتداعياته وشجونه، تلك التي تحرك بداخلها شهوة البوح والإفصاح، أو الاندياح في سبيل العلاج لأرق مزمن قد يجتاح الفكر، أو يعتلج النفس، أو يكون تأثيره قد طفح ليبلغ الزبى، لتكون الكتابة هنا كرد فعل للألم، أو جرعة لتثبيطه.. أو كما قيل إن الإنسان يدخل في غمار الشجن، قبل أن تستهلكه دواعيه.. فهل الكتابة تعد نوعًا من الشجن؟
قد تكون هذه الرؤية فلسفة لفعل الكتابة، أو منطادًا يرتاد به الكاتب آفاق تعانقه مع الكلمة والعبارة ونبت الفكرة التي تقود نصًا يقدم معالجة لشجون تلك الذات/ المعبرة عن مضمون أو منظومة إنسانية أو شريحة اجتماعية أو حالة مؤسسة للوعي بقضية الكتابة.. فهل ما يحرك الكتابة دومًا هو الألم؟.. أم هو الأمل كمحرك لسعي خلف عملية تذويب الألم، أملًا في انقشاعه أو تخفيفه، أو حتى إيقافه إلى حين.. وهل يتوقف الألم؟
تثير العلاقة بين الكتابة والألم جدلًا ممتدًا، وإشكالية لا تتوقف عن طرح معادلاتها وتجاربها المرتبطة به ومسبباته، مع استمرار تقديم صور الألم سواء كانت ظاهرة معلنة، أو باطنة مضمرة تتخفى في أردية تسردها الكتابة أو تشعرنها، فدائمًا ما تطفو على السطح وتأخذ البريق الساطع تلك الكتابات المنغمسة في الألم، أو المتباهية به، أو التي تتخذه مناطًا وسببًا رئيسًا لتجييش العواطف الإنسانية والمواقف؛ حتى ترصد تداعياته ومبرراته وحبله السري الذي يربطه بواقع ربما كان أشد ألمًا، ككتابة الاعترافات، والسيرة الذاتية المليئة بأسرار الألم وبواعثه وآثاره والنتائج الإيجابية والسلبية التي تمخض عنها وجوده في حياة البشر/ الكاتب، كما نجدها في أعمال خلَّدت الألم وخلَّدها مثل: «الخبز الحافي» لمحمد شكري، و»مأساة الحلَّاج» لصلاح عبد الصبور، و»الإخوة كارامازوف» لديستويفسكي، و»البؤساء» لفيكتور هيجو، و»روميو وجولييت» لشكسبير، و»غادة الكاميليا» لألكسندر دوماس، و»بداية ونهاية» لنجيب محفوظ، والكثير من الأعمال التي تعرضت لمأساة الآلام النفسية وتجارب المرض مثل: «باولا» لإيزابيل الليندي، وغيرها، وغيرها..
***
فهل هناك متلازمة بين الكتابة وتجربة الألم، وإن كان عن تجربة شخصية أو عائلية أو اجتماعية، أو كشاهد على أطراف صراع الألم مع الوجود ليعيد طرح ذاته؟
ذلك مما قد يجعلنا نلج مغامرة مع إشكالية أخرى، وهي ألم الكتابة في حد ذاتها والاستمرار في استجلاب خبيئة النفس التي تتحول إلى قابلة قد لا تستطيع حيلة لاستقبال مولود متعسر هو النص المكتوب، أو الكتابة المتعسرة من بعد تدفق وتشويق وإثارة، فهي الحالة الأشبه بدايةً بألم المخاض الذي يسبق الكتابة، ثم ألم التحقق من النص المشرع في كتابته، وتلك المسافة الشاسعة التي يعدو فيها الكاتب وراء فكرته، وعملية المراوغة التي ربما تقمص فيها الكاتب دور المصارع أو المروض الذي يتبع كل السبل كي يحتال على فريسته التي ربما اكتشف في غمرة دخوله في حضرة الكتابة أنها صراع مع الألم ذاته ودواعيه، ومحاورته ومجاورته، والاتكاء عليه والهروب منه والعودة إليه، واستدعائه.. هذا التأرجح الذي يمارسه الكاتب وهو على أرجوحة الكتابة الأشبه بالمخاض، فما بالك والألم ينشب أظفاره في متن قد يكون ماديًا خالصًا أو روحانيًا خالصًا، أو مزيجًا من المحسوس والملموس معًا، ليتدرج مدى الألم وقوته مع عملية الجزر والمد التي تقوم بها الكتابة ذاتها لتصنع ألمًا من نوع مغاير يتوازى مع ألم المتن..
ربما تباينت تجارب تلك الحالة من الألم التي ربما لم تعتر كثيرين ممن لا يعيشون تجربة الكتابة إلا على المحك، أو كالذي يدور حول الحمى يخشى الوقوع فيه، بالصورة التي يتوجب حدوثها لاعتصار الكتابة من قبضة الألم إلى البراح، إلا أن القابض على جمر الكتابة قابض بالتأكيد على جمر الألم الذي لا يفارقه في كل الحالات بحثًا عن خلاص.
** **
- كاتب وناقد مصري