د.عبدالرحيم محمود جاموس
لم يكن يوم الثلاثين من آذار/ مارس 30-03-1976م يوماً عادياً في تاريخ نضال الشعب الفلسطيني وإنما كان يوماً مفصلياً ومهماً في مسار مواجهة سياسات التهويد في الأراضي المحتلة منذ سنة 1948م، لما عبر فيه وعنه الشعب الفلسطيني من نهوض جماهيري ورفض لسياسات التهويد، ولأهمية ذلك نعرض في مقالنا لأهم الإرهاصات والوقائع والأحداث التي مهدت وأدت إلى حدوث المواجهات وما حدث تحديداً في يوم الأرض وإعطائه أهميته الوطنية النضالية والسياسية في سياق جدلية الصراع مع المشروع الصهيوني.
جاء يوم الأرض ليتوج نضالات شاقة وطويلة وقديمة، قِدم الاحتلال نفسه، وليضيف في الوقت نفسه، إضافة نوعية إلى هذه النضالات، لاسيما في مجال توحيد القوى الشعبية الفلسطينية في مواجهة منظومة الإجراءات الفاشية، والعنصرية، التي تمارسها في حقه، سلطات الاحتلال الإسرائيلية، والهادفة بالدرجة الأولى إلى مصادرة أراضيه، ونزع ملكياته لها، وضمها إلى مستوطناته، أو معسكرات تدريبه، ومنع الشعب الفلسطيني من العيش عليها والانتفاع بها، تمهيداً لاقتلاعه منها، ومن ثم دفعه إلى ترك وطنه، في سياق السياسات الفاشية الإسرائيلية المتصاعدة والهادفة إلى تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها الأصليين العرب الفلسطينيين، سعياً منه إلى تحقيق دولة النقاء العرقي اليهودي.
في ظل تنامي موجة التمييز العنصرية والفاشية الإسرائيلية ضد العرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة لعام 1948م، خلال العام 1975م، والتي هدفت بالدرجة الأولى إلى ضرورة مصادرة الأراضي التي يملكها العرب، وخصوصاً في الجليل بسبب موقعه الاستراتيجي، وازدياد عدد السكان العرب فيه نسبة إلى اليهود، حيث إن نسبة اليهود قد هبطت فيه من 58 % إلى 52 % في العام 1975م، وبلغ حجم الزيادة بين السكان اليهود في منطقة الشمال 780 نسمة فقط، مقابل 9000 نسمة في المحيط العربي، ذلك ما دفع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات العنصرية الهادفة إلى مصادرة أراضي السكان العرب، ووضع خطط لتوسيع الاستيطان اليهودي لهذه الأراضي، وقد شهدت سنة 1975م تصعيداً محموماً في موجة المصادرة وتسريع الاستيطان في الجليل والمثلث الفلسطيني، فأقدمت سلطات الاحتلال على مصادرة نحو ثلاثة آلاف دُونم من الأراضي التي تملكها قرية كفر قاسم، وإعلان المنطقة المعروفة بالمنطقة (رقم 9) في الجليل الغربي ومساحتها ثلاثة وعشرون ألف دُونم (منطقة عسكرية)، لاستخدامها في التدريب العسكري وعدم السماح لفلاحيها العرب من زراعتها أو استعمالها، وأقدمت السلطات الإسرائيلية على إغلاق المنطقة، وتسييجها بحجة أنها منطقة (تدريبات عسكرية)، واعتبرت هذه الخطوة مرحلة أولية لمصادرة الأراضي في هذه المنطقة، ونظر الفلسطينيون إلى هذه الخطوة على أنها مقدمة لمصادرة الأراضي، ضمن مشروع تهويد الجليل المعلن من قبل سلطات الاحتلال، والذي يشير أيضاً إلى مصادرة أراضٍ في مناطق الناصرة، والشاغور، والبطوف، وصفد، وبالفعل في 29 شباط/ فبراير 1976م اتخذت الحكومة الإسرائيلية قراراً بمصادرة 20 ألف دُونم من أراضي الجليل بحجة ما أسمته (خطة تطوير الجليل) كل هذه الإجراءات الفاشية العنصرية الغاشمة على أساس التمييز العنصري والهادفة إلى تهويد الأرض الفلسطينية، ونزع ملكيات أصحابها الشرعيين، تمهيداً لاقتلاعهم وتهجيرهم منها، أدت إلى حالة احتقان شعبي، بلغ ذروته في انتفاضة يوم الأرض في 30 آذار/ مارس 1976م، فتداعت المجالس المحلية والقوى الشعبية الفلسطينية والقوى المعادية للعنصرية من اليهود، إلى عقد المؤتمرات، واللقاءات، لوضع سياسات المواجهة لهذه الإجراءات العنصرية والفاشية للسلطات الإسرائيلية، والعمل على إحباطها، واحتفاظ الفلسطينيين العرب بملكية أراضيهم وحقهم بالعيش عليها والانتفاع بهاوبادرت القوى والشخصيات الوطنية إلى عقد اجتماعات تحضيرية لعقد مؤتمر شعبي للدفاع عن الأراضي العربية، وقد عُقد المؤتمر في الناصرة يوم 18-10-1975م، ورافقه زخم شعبي كبير في كل القرى والمدن العربية، وانبثقت عنه ( اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي ) التي كان هدفها التصدي لمخططات نهب الأرض العربية، كما أقرت المجالس المحلية في (عرابة البطوف، وسخنين، ودير حنا) عقد مؤتمر شعبي في سخنين في يوم 14 شباط/ فبراير 1976م، حيث احتشد ما يزيد على خمسة آلاف نسمة للمشاركة فيه، وشاركت فيه مجالس السلطات العربية المحلية وأعضاء اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي، وأعضاء كنيست عرب، وعدد من المحامين الديمقراطيين، وفئات المثقفين والطلبة، ووفود الفلاحين والعمال من جميع أنحاء البلاد، وقد تجلت الوحدة الوطنية في هذا المؤتمر، والذي هو امتداد وصدى لمؤتمر الناصرة، وقد تحول المؤتمر إلى مسيرة شعبية ضخمة، اخترقت الشارع الرئيسي لبلدة سخنين، واتخذ المؤتمر الشعبي عدة قرارات جاء فيها (إنه يعتبر قرار الحكومة الإسرائيلية بإغلاق المنطقة المذكورة، وبالتالي مصادرتها، خطوة لتجريد الفلاحين العرب من أراضيهم، وطالب المؤتمر بإلغاء الصفة العسكرية عن هذه الأراضي وتمشيطها وتنظيفها من المواد المتفجرة، وإعادتها إلى مناطق الاختصاص المجالس المحلية العربية، وقرر المؤتمر مواصلة الكفاح للدفاع عن هذه الأراضي بإرسال الوفود إلى الكنيست، أو اللجوء إلى المحاكم... كما دعا المؤتمر إلى تنظيم مسيرة شعبية ضخمة إلى الأراضي المغلقة إذا لم ترتدع السلطات عن خطة المصادرة... والإعلان عن إضراب عام وشامل ...) وتواصلت النضالات الشعبية لمواجهة سياسات المصادرة للأراضي العربية وفي 21 شباط نظمت ندوة في تل أبيب للتضامن مع نضال الجماهير العربية، اكتظت الندوة بالجمهور الذي يمثل مختلف الفئات والتيارات السياسية، وأعرب الخطباء العرب، واليهود، عن تضامنهم مع نضال السكان العرب، وإثر ذلك قررت المجالس المحلية في قرى عرابة البطوف، وسخنين، ودير حنا، عقد مؤتمر صحفي في تل أبيب (لفضح نوايا الحكومة وإجراءاتها التعسفية) وبالفعل عقد المؤتمر في 29 شباط باشتراك رؤساء المجالس المحلية للبلدات الثلاث، ومحمد السواعد ممثل عرب السواعد، والقس شحادة خليل عضو لجنة الدفاع عن الأراضي، تم فيه التشديد على المواقف المذكورة آنفاً مرة أخرى.
وفي هذا الجو المتوتر والمشحون والناجم عن الحديث المتواصل عن مشاريع مصادرة الأراضي والاستيطان اليهودي في الجليل، وعن إغلاق المنطقة رقم (9)، تبنت الحكومة الإسرائيلية في نهاية شباط/ فبراير 1976م ما أسمته خطة (تطوير الجليل) فخلق ذلك توتراً جديداً شديداً، شمل جميع قطاعات الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، وزاد في زخم نضاله الوطني والقومي ضد السياسات الإسرائيلية، وبناءً على ذلك تنادت جميع القوى والهيئات، والمنظمات الشعبية إلى جعل يوم 30 آذار/ مارس 1976م يوماً تاريخياً مفصلياً وإضراب عام وشامل والعمل على حشد القوى كافة من أجل ذلك، والتأكيد (على أن العرب الفلسطينيين لن يتخلوا عما تبقى لهم من أرض، وسيتشبثون بها بكل قواهم... ولن تخيفهم تهديدات السلطات الإسرائيلية، ولن تثني عزيمتهم الأضاليل التي تنشرها وسائل الإعلام الإسرائيلية لتشويه نضالهم العادل...) وصدر ذلك في بيان وقعته سبع عشرة هيئة شعبية فلسطينية، وحاولت السلطات الإسرائيلية ثني الهيئات الشعبية والمجالس المحلية العربية عن هذا القرار، ولكن جميع محاولاتها والقائمة على الترغيب والترهيب، قد باءت بالفشل، وأعلن القائد الوطني ورئيس مجلس بلدية الناصرة المرحوم توفيق زياد يوم 24-3 قرار الهيئات الشعبية الفلسطينية (أن الشعب قرر الإضراب يوم الثلاثين من آذار 1976م)، وهكذا كانت المواجهة التاريخية المفصلية صباح يوم الثلاثاء 30 آذار 1976م، وأفاقت المدن والقرى العربية صباح ذلك اليوم على إضراب شامل، وفي محاولة أخيرة من جانب السلطات الإسرائيلية لإفشال الإضراب والتظاهرات، أصدرت أمراً بمنع التجول، يشمل جميع المدن والقرى العربية، اعتباراً من الساعة الواحدة ليل 30 آذار وحتى العاشرة مساءً، ويقضي الأمر بعدم مغادرة المواطن لبيته، خلال الساعات المذكورة، وبقيت قوات الشرطة، والجيش، وحرس الحدود الإسرائيلية، في حالة تأهب وتعبئة كاملة، لكن هذه التدابير العنصرية الإسرائيلية، لم تستطع أن تكسر الإضراب أو تمنع الجماهير العربية الفلسطينية من التعبير عن سخطها وغضبها، بالإضافة إلى إقامة المتاريس وإشعال الإطارات، وعمت التظاهرات في ذلك اليوم في شفا عمر، وطمرة، وكابول، ومجد الكروم، والمغار، ونحف، ودالية الكرمل، والرامة، وعكا، وأم الفحم، وكفر قرع، وعارة، وعرعرة، وكفر قاسم، وقلنسوة، وباقا الغربية، والناصرة، وأما قرى عرابة البطوف، ودير حنا، وسخنين، فقد شهدت المواهات الرئيسية الدامية مع قوات الشرطة، وحرس الحدود، وعلى أرض هذه القرى سقط شهداء يوم الأرض، والذين بلغ عددهم ستة شهداء هم: خير ياسين من عرابة، ورجا أبو ريا وخضر خلايلة وخديجة شواهنة من سخنين، ومحسن طه من كفر كنا، ورأفت زهيري من مخيم نور شمس استشهد في طيبة المثلث، كما سقط تسعة وستون جريحاً، إضافة إلى اعتقال أكثر من ثلاثمائة من أبناء هذه القرى الثلاث، فسطر الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1948م ملحمة تاريخية، ومفصلية بانتفاضة (يوم الأرض) في الدفاع عن ملكيتهم لأرضهم، وحقهم في العيش عليها، والانتفاع بها، كما سطروا وحدة وطنية عجزت سلطات الاحتلال عن كسرها، ومن هنا يأتي التوقف سنوياً فلسطينياً وعربياً أمام ذكرى هذه الملحمة البطولية والتاريخية للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948م في وجه السياسات الفاشية والعنصرية الإسرائيلية.
وفي يوم الثلاثين من آذار 2023م، والذي يصادف الذكرى السابعة والأربعين لانتفاضة يوم الأرض يأتي في ظل تصعيد محموم لم يسبقه مثيل من جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتوسيع الاستيطان فيها، وخصوصاً في مدينة القدس الشريف وبقية الاراضي المحتلة بهدف اقتلاع الفلسطينيين منها على طريق تهويدها وجعل القدس عاصمة لكيانه الغاصب، في أكبر عملية قرصنة وتزوير في التاريخ قديمه وجديده، وإطلاق يد الاستيطان في أنحاء مختلفة في الضفة الغربية.
فما أحوجنا اليوم في الأراضي المحتلة عام 1967م لانتفاضة الأرض وليس ليوم واحد للأرض لأن يوماً واحداً لن ينهي الصراع مع المحتل، الذي يواصل سياسته الهادفة إلى إسقاط المشروع الوطني الفلسطيني وتدميره، بمختلف الوسائل والأساليب، وفي مقدمتها مصادرة الأراضي، ونشر الاستيطان، وتوسيعه وتعميقه، في القدس، وحول القدس، والأنحاء المختلفة من الضفة الغربية، وطمس الهوية العربية الإسلامية والمسيحية للقدس الشريف، كل ذلك يجري تحت مظلة ما يسمى الجهود الدولية الحثيثة من أجل العودة لمفاوضات تؤدي إلى تسوية سياسية للصراع، باتت تتوارى وتتراجع أمام عنت وفاشية الكيان الصهيوني وغرقه في أوهام التطرف والتنكر للقانون الدولي ولقرارات الشرعية الدولية، ولكن وبعد مضي اثنين وثلاثين عاماً على انطلاقة المفاوضات في مؤتمر مدريد للسلام 1991م، نجد أن الاحتلال قد خلق المزيد من الوقائع على الأرض، قد أفرغت هذه الجهود من أي محتوى لها، وأدى إلى وضع أزمة على كل المستويات الفلسطينية والعربية والدولية، لا مجال من الخروج من هذه الأزمة بدون إعادة الاعتبار لعملية السلام على أسس الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي، وفي ظل هذا الوضع القائم والمأزوم في فلسطين والمنطقة، وانسداد أفق أي تسوية تحمي الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني، تحل علينا الذكرى السابعة والأربعون ليوم الأرض، فما أشبه اليوم بالبارحة، فلا بد من مواصلة النضال ومواجهة الاحتلال وإجراءاته العنصرية والفاشية، لأجل وقف سياسات المصادرة والتوسع والإحلال والاقتلاع والتهجير والاستيطان ومواجهتها بفعالية لابد من:
أولاً: تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية وإنهاء حالة الانقسام المدمر شرط لازم وضروري لتفجير الطاقات الشعبية الفلسطينية في انتفاضة شعبية سلمية عارمة، يخوض غمارها الشعب الفلسطيني بكل مكوناته ومن خلال أطره ومنظماته الشعبية المختلفة، وقواه السياسية المختلفة، بقيادة م.ت.ف لمواجهة سياسات الاحتلال، الهادفة إلى التوسع والاقتلاع والإحلال والتهجير، والمصادرة وتكريس الاستيطان في الأراضي الفلسطينية.
ثانياً: يجب تحرك الشتات الفلسطيني والشعوب والدول العربية لمساندة الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وتوفير الحاضنة الشعبية والرسمية العربية لنضاله وصموده من خلال تقديم كافة أشكال الدعم والمساندة التي من شأنها العمل على ديمومة انتفاضته واستمرار صموده، حتى نيل حقوقه المشروعة، ووقف وكسر وإزالة كل مشاريع الاستيطان والاقتلاع والتهويد للقدس ولبقية الأراضي الفلسطينية.
ثالثاً: توفير مساندة دولية، شعبية وحكومية فاعلة، ودعم صريح لمطالب الشعب الفلسطيني وتمكينه من حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة، ووضع حد لاستمرار الاحتلال الذي يعتبر اليوم آخر احتلال على وجه الكرة الأرضية وعدم ترك الولايات المتحدة منفردة في إدارة الصراع وفرض مؤتمر دولي متعدد الأطراف يعنى بإقرار السلام على أساس إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من العودة وتقرير المصير.
رابعاً: العمل على تثمير الإنجازات السياسية والدبلوماسية التي أنجزتها م.ت.ف وخصوصاً اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة في يوم 29-11-2012م بدولة فلسطين المستقلة على حدود الرابع من حزيران 1967م وعاصمتها القدس، وذلك من خلال العمل المستمر والدؤوب على مواصلة بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية وتمكينها من بسط سيادتها الكاملة على كامل أراضيها المحتلة وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني.
الشعب الفلسطيني، ومعه العالم اليوم، مطالب بإحياء ذكرى يوم الأرض المجيد بما يليق بها وبما تعكسه من تحدٍّ للاحتلال وسياسات التهويد، وبما تطرحه من أهمية ومركزية لعنصر الأرض في جدلية الصراع مع الكيان الصهيوني، وأخذ العبرة منها لمواجهة هذا الواقع المرير الذي يفرضه اليوم الاحتلال الإسرائيلي وسياسته العنصرية الإحلالية، والتوسعية والاقتلاعية على الأراضي الفلسطينية المحتلة في القدس والضفة الغربية، والتي تدمر كل أمل وكل فرصة ممكنة للتوصل إلى السلام المنشود وتهدد الأمن والسلم في المنطقة وتهيىء وتخلق كامل الظروف لدورات عنف جديدة.