كتاب «الآخرون لا يفكرون مثلنا» من تأليف السياسي الفرنسي المعروف موريس جوردو مونتاني، صدر في 2022م عن دار نشر بوكان الفرنسية في حوالي 369 صفحة، ويجمع بين المذكرات الدبلوماسية والمقالات الجيوسياسية. يستند جوردو في هذا الكتاب إلى ثقافته الواسعة وحنكته السياسية التي اكتسبها عبر سنين طويلة من العمل الدبلوماسي، وهو بهذا يسعى إلى إلقاء نظرة واقعية على حاضر ومستقبل فرنسا في ظل المتغيرات العالمية المتلاحقة وتباين وجهات النظر الدولية حول العديد من الملفات الساخنة.
يعدّ موريس جوردو مونتاني صاحب كتاب: « الآخرون لا يفكرون مثلنا» من أفضل خبراء العلاقات الدولية في الأربعين سنة الماضية ومن أهم وأشهر الدبلوماسيين الفرنسيين، شغل عدة مناصب هامة، أبرزها المستشار الدبلوماسي للرئيس السابق جاك شيراك (2002-2007) ومدير مكتب آلان جوبي رئيس وزراء فرنسا (1995-1997) وسفير فرنسا في عدد من العواصم العالمية.
في تلك المذكرات الدبلوماسية، يقدم لنا موريس جوردو مونتاني خلاصة تجربته الفكرية والسياسية التي امتدت لعقود من الزمن وجعلته يستنتج أن الغرب بوجه عام وفرنسا تحديدا تعاني من أزمة معايير أخلاقية حقيقية. فبينما يمزج الكاتب بين تحليل رصين لآليات الفوضى التي سادت وتسود بعض المناطق من العالم ورؤيته الشخصية لمجموعة من الأحداث السياسية التي انعكست إيجابا على مسيرته المهنية، يسمح له رصيده في العمل الدبلوماسي بتقديم قراءة عن فرنسا التي لم تعد مركز القوة في عالم اليوم، من هذا المنطلق يشكّك جوردو في مستقبل بقائها كقوة عالمية عظمى.
إن كتاب «الآخرون لا يفكرون مثلنا» يعتبر جولة إرشادية داخل دهاليز وأروقة الدبلوماسية الفرنسية، ومع أنه لا يهدف إلى نشر أسرار وزارة الخارجية الفرنسية أو القصر الرئاسي، إنه يلقي نظرة جديدة على الأزمات الدولية وتطور الدبلوماسية الفرنسية والدور الذي يجب على فرنسا أن تلعبه من أجل استعادة تألقها على المستوى الدولي على الرغم من أن شركاء باريس في عدد من العواصم الهامة مثل برلين وواشنطن ونيودلهي وطوكيو لا يتقاسمون مع فرنسا نفس الاهتمامات في كثير من المواقف.
جملة من القضايا الاستراتيجية المعاصرة يطرحها كتاب «الآخرون لا يفكرون مثلنا»، من أهمها العلاقات الفرنسية الأمريكية خلال حرب العراق والوصف الدقيق والمفصل للطريقة التي تمكن بها الرئيس الراحل جاك شيراك من الحفاظ على مكانة فرنسا الدولية منذ أن اتخذت موقفا محددا من الحرب الأمريكية ضد العراق. من بين القضايا التي يناقشها هذا الكتاب تأتي إشكاليات التفاوض الإيراني الغربي التي ألقت بظلالها على المباحثات السرية التي كُلف بها جوردو بغرض تجديد العلاقات مع إيران وسوريا. كما يتناول الكتاب الأحداث التي صاحبت تأسيس الاتحاد الأوروبي بالإضافة الى قضية التدخل الروسي في سوريا وغزوها لأكرانيا.
يناقش كتاب «الآخرون لا يفكرون مثلنا» حوار الفرص الضائعة مع روسيا ويقدم تحليلا للأزمة الأوكرانية، ولأن العالم الغربي فقد احتكاره للقوة فقد أصبح نموذجه ورؤيته للعلاقات الدولية موضع تساؤل دول الجنوب التي تراقب عن كثب تطورات ومستجدات الحرب الروسية الأوكرانية التي يصفها موريس جوردو مونتاني في كتابه بأنها «صراع إقليمي بين ذوي البشرة البيضاء». يشير المؤلف في هذا الكتاب الى أن دول الجنوب تتساءل عن مظاهر الانتقائية الذي يمكن أن تظهره الدول الغربية فيما يتعلق بالنزاعات الحدودية بين الدول إلى جانب انعدام المساواة في تطبيق ما يسمى بالقيم «العالمية». أيضا يشير الكتاب الى أن النظام الدولي الجديد سيؤدي حتما الى تعزيز نفوذ دول ناشئة تبدي عدم رغبتها في تطبيق العقوبات المفروضة على روسيا وأيضا فك الارتباط مع الدولار.
في كتاب «الآخرون لا يفكرون مثلنا،» يسلط المؤلف الضوء على التطورات الحاصلة في البلدان البعيدة مثل الصين والهند واليابان. وفي مواجهة أهمية القضية الجزائرية، فإن المؤلف يفتح ملف معاهدة الصداقة الفرنسية الجزائرية من أجل فهم جيد للتحديات المعاصرة. كما أنه يرسم صورا للقادة الذين التقى بهم ولا سيما في الهند رئيسة الوزراء إنديرا غاندي وفي ألمانيا الرئيس يواخيم جاوك وفي اليابان رئيس الوزراء السابق ناكاسوني وفي روسيا الرئيس الروسي الذي التقاه عشرات المرات.
ختاما، فإن العصر الراهن الذي يتسم بعودة التحالفات وانحسار القيم العالمية تجد فرنسا نفسها مجبرة على التكيف مع الواقع الجديد للعالم، فلم تعد فرنسا اليوم في وضع يسمح له بفرض رؤيتها على بقية دول العالم وذلك لأن «لآخرين لا يفكرون مثلها».
** **
- د. أيمن منير