رضا إبراهيم
لقد نصت الفكرة الأساسية في المقال المستطرد، على أنه عبارة عن مكان وسط بين كل من المقال المألوف وبين الكِتاب، إذ إن المقال المستطرد يبدو أطول دوماً من المقال التقليدي وأقصر من الكِتاب، وذلك بهدف الإمساك بموضوع محدد والعمل على استبيانه قدر الإمكان.
وعلى العكس تماماً من المقال المستطرد أو المسترسل، نشأت فكرة المقال أو الخبر السريع، وللعلم فإن المقال فن صحفي في الأساس، حيث إن الكتابة الصحفية تتطلب نوعاً من الإيجاز والرشاقة في التعبير، بجانب الترابط والوضوح في الأفكار، ومن ناحية وضعه الفني الحديث، يتميز المقال بالقصر، كونه لا يحاول أن يشمل كل الحقائق والأفكار التي تتصل بموضوعها، ولكنه قد يختار جانباً أو قليلاً من جوانبه ليجعله موضع الاعتبار، وهو ما أكده المفكر والفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632 - 1704م) ضمن مقاله الموسوم بـ(مقال عن الإدراك النفسي).
بجانب ما يتضمنه المقال على وجه العموم، من أساليب لعرض المعلومة أو الموضوع بشكل فني مشوق، مع تمكن الكاتب من اختيار موضوع يمكن تقديمه إلى القارئ بطريقة أكثر تنظيماً وتشويقاً، على ألا يتضمن فقط المهارة في اختيار موضوع جرى تحديده، أو الحرص على اختيار ما يتصل به من مواد، لكنه يتضمن أيضاً ما لدى الكاتب من براعة ودقة، تكفي لتوزيع درجات القوة على أنسب المواضع في المقال، كي يضمن الاستجابة المرجوة عند القراء، وحول السياق نفسه يقول الكاتب والصحفي الأمريكي وليم إتش جاس (1924 - 2017م) «إذا كنت تكتب بشكل رديء فسيصبح لك جمهور، وإذا كنت تكتب بشكل جيد، فسيصبح لك قراء».
وتجدر الإشارة إلى أن المقال جرى تشييده على ثلاثة عناصر، أولها الخطة وهي تبدأ بـ(المقدمة) يليها (العرض) ثم (الخاتمة)، وعن الأساس الثاني في المقال فهي المادة نفسها، التي هي عبارة عن أفكار عدة وآراء وحقائق ومعارف، بجانب النظريات والتأملات والمشاهد والتجارب والمشاعر والأحاسيس والخبرات، ثم يليهما الأساس الثالث المتمثل في الأسلوب، وهو عبارة عن طريقة الصياغة اللغوية والأدبية التي توجد بمادة المقال، أو ما يعني بـ(القالب الأدبي) أو البوتقة الأدبية، التي يصُب فيها الكاتب أفكاره، ويبرز رؤيته حول الموضوع.
كما يتميز المقال بقوة الأسلوب، والذي يفرز قوة التأثير، حيث إن الأسلوب له أهم الأدوار في إيجاد القناعة، وليس للمقال موضوع معين، فقد يمكن لكاتبه عرض أي موضوع أياً كان ذلك الموضوع، فيمكن أن يكون موضوعاً (دينياً أو اجتماعياً أو علمياً) أو (سياسياً أو تاريخياً أو نقدياً) أو غيرها من الموضوعات الأخرى، التي هي على اتصال مباشر أو غير مباشر بمجالات الحياة كافة التي نتعايش معها.
وبالعودة إلى بداية القرن العشرين، نجد أن الصحفي البريطاني الشهير الفريد هارمزورث (1865 - 1922م) والمعروف فيما بعد باللورد نورثكليف، هو صاحب فكرة تجربة المقال السريع، وتلك الفكرة حددت أن أي مقال أو خبر ما، من الضروري ألا يزيد عن (250) كلمة على أكثر تقدير، حيث قام هارمزورث بتجربة فكرته بشكل عملي، من خلال جريدة (ديلي مور) وكان نجاح فكرته مدوياً وبلغ ذروته، وقد استوحي هارمزورث في مجمل تصوراته ذلك النموذج الأمريكي في الحياة العامة، وتأثر كثيرًا بأفعال المجتمع الأمريكي، بدءًا من الخطوة السريعة، مرورًا بأكل الوجبة السريعة (الساندويتش)، حيث إنه قام بترجمة كل ذلك ترجمة تلزم الفكرة والخبر والمعلومة.
ورغبة في التوضيح، فإن المجتمع الأمريكي عمل على تطوير نظرية الساندويتش (هي فكرة بدأت في بريطانيا) إلى «السجق المسلوق» أي «الهوت دوج» والي «الدجاج المقلي» أي «كنتاكي تشيكن» وإلى «اللحم المفروم» أي «هامبورجر»، وكل ما سبق أنتجته شركة «ماك دونالدز» الشهيرة بكل الأحجام الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، ما يعني أن هارمزورث رأى أن المقالات والأخبار والمعلومات، من الضروري أن تسير على درب نظرية الساندويتش نفسه، باعتبارها نموذجاً يحتذى به، إيماناً منه بأن هذه النظرية أو النموذج، هي التي تعبِّر عن العصر وعن رائحته ومذاقه.
وقد نجح هارمزورث في تغيير النمط الخاص بصحيفة ديلي مور بشكل كبير جداً، وعلى الرغم من احتفاظه بالتخطيط التقليدي ذي الأعمدة السبعة، لكنه قام بتقليل الإعلانات إلى عمود واحد يوضع على اليسار، كما تم تقديم (6) أعمدة من الأخبار بأسلوب أكثر بساطة، وبعد فترة قصيرة بدأ هارمزورث أيضاً باستخدام الرسوم التوضيحية لتقسيم النص، وذلك الابتكار جرى استخدامه بالطريقة نفسها فيما بعد في معظم الصحافة الأمريكية.
وعبر تقارير إخبارية موجزة وقصة يومية، وعمود للنساء يتعامل مع العديد من القضايا مثل «الموضة والطهي»، ارتفع توزيع صحيفة الديلي مور في غضون عام، ليصل إلى نحو (160) ألف نسخة يومياً، كما ارتفعت الأرباح بشكل كبير، لذلك اعتبر هارمزورث واحداً من أنجح ناشري الصحف في تاريخ الصحافة البريطانية كلها، وأطلق عليه وقتها مؤسس الصحافة الشعبية الحديثة، واعتبر هارمزورث لدى الناشرين بأنه أحد أقطاب الصحف البريطانية، الذي أحدث ثورة في نشر الصحف والمجلات في بريطانيا، واشتهر هارمزورث بشراء الصحف الجامدة وغير المربحة، ومن ثم نجح في تحويلها تدريجياً لتكون مفعمة بالحيوية والترفيه لكل الأذواق والأعمار.
وإكمالاً لما سبق، يجب القول إن أهم طرائق شد انتباه القارئ، وجعله يترقب الأحداث التي سوف يتم سردها في المقال السريع والمشوق، تكمن في محفزات التشويق الداخلية، وهي محفزات تشبه تماماً (التوابل) الموجودة بالساندويتش، وتلك الطريقة تجعل القارئ متلهفاً للمزيد، وتلك المحفزات لها واقع السحر على القارئ، باعتبارها أيضاً فاتحًا لشهية القارئ لنيل المزيد من المقالة، بينما عمق المقالة وتركيزها، هو ما يحدد الفرق الأساسي بين المقالة القصيرة والطويلة، والكاتب بهذه الحالة ليس في احتياج لسرد حبكة شديدة التعقيد، كي يأسر بها فضول القارئ، وليس من الضروري أن يرسم مشهداً غاية في الغرابة.
إذ إن مكون التشويق في قصته أو موضوعه أو خبره، عبارة عن (خلطة لذيذة)، وأداة تنبع من داخل النص نفسه، يتم ربطها بأحداث وتفاصيل الموضوع المتسلسلة (رغم قصر حجمه)، وتلك النظرية تمكن أكبر شريحة من القراء من فهم المحتوى بسهولة، دون الحاجة إلى قراءة النص مرات عدة، فالطبيعة الأساسية للمقال القصير تكمن في مدى دقته، ما يعني أن كل مناقشة فيه يجب أن تكون في لب الموضوع نفسه، على غرار ما يحدث بمعظم الأعمال التليفزيونية من أفلام أو مسلسلات.
لذلك يسعى معظم الصحفيين إلى جعل الجُمل أقصر من (20) كلمة، بينما لا تزيد الفقرات عن جملتين أو ثلاث بشكل عام، وبعض الفقرات تتكون من جملة واحدة فقط، وتلك الجملة إذا كانت جيدة هو ما يعرف بالمجاز أي (القصير المباشر البسيط)، من أحد أهم الأمور عند كتابة المقال القصير، والهدف من ذلك المجاز من الناحية اللغوية تحقيق عملية الوصول من فكرة إلى أخرى أو من الغموض إلى الإيضاح.
بشرط عدم تضمن الفقرات جُملاً ليست ضرورية، حيث يجعل الكاتب كل كلمة في مقاله تخبر عن شيء ما، وتأكيداً على ذلك يقول الكاتب والمحرر الأمريكي والمختص بمجال الكتابة روى بيتر كلارك «الكتَّاب الجيدون يصعدون ويهبطون سلم اللغة في الأسفل، سكاكين حادة وخرز مسابح، وخواتم زيجات وبطاقات بيسبول في الأعلى، كلمات تسعى إلى معنى أرفع، كلمات مثل الحرية والمعرفة».
وخلاصة ما تقدم، وحتى يمكن الوصول لنظرية الساندويتش، لصياغة المقال القصير أو الخبر السريع، يجب تفعيل كل ما هو بسيط على ما هو معقد، ما يعني أنه في حالة الوصول إلى مواطن التعقيد في موضوع المقال، يجب استخدام كلمات وجمل وفقرات أقصر، علماً بأن هذه النظرية تهتم بالبساطة، إذ إن الكاتب المحترف يمكنه جعل البسيط مهماً ومشوقاً، له تأثير جيد، تسيل له لعاب القارئ، ما يجعله يقبل على التهامه، كم يجب أن يكون لدى كاتب المقال القصير مهارة، تمكنه من مناقشة حججه بأدق الطرق، وكل ذلك يتطلب تقنية أدبية خاصة، يمكن للكاتب من خلالها تحويل ما هو غريب، إلى ما هو مألوف ومرغوب فيه.